افلام عربى ، افلام اجنبى ، ماي ايجي ، اغانى ، العاب ، برامج ، موبايل ، العاب ، فيلم ، طرب ، منتديات ماي ايجي ، DVD ، اجهزة ، ستار ، mp3 ، arb ، MyEgy.RiGaLa.NeT ، كرة القدم ، مشاهدة ، تعليم ، اشهار ، المنتديات ، دعم ، استايل ، حصريا ، صور ، برنامج |
|
| تفسير السعدي - سورة النساء | |
| | كاتب الموضوع | رسالة |
---|
مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:12 pm | |
| تفسير السعدي - سورة النساء يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "
افتتح تعالى هذه السورة, بالأمر بتقواه, والحث على عبادته, والأمر بصلة الأرحام, والحث على ذلك. وبين السبب الداعي, الموجب لكل من ذلك, وأن الموجب لتقواه أنه " رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ " ورزقكم, ورباكم بنعمه العظيمة, التي من جملتها خلقكم " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا " ليناسبها, فيسكن إليها, وتتم بذلك النعمة, ويحصل به السرور. وكذلك, من الموجب الداعي لتقواه, تساؤلكم به, وتعظيمكم. حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم, توسلتم بها, بالسؤال. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله, أن تفعل الأمر الفلاني. لعلمه بما قام في قلبه, من تعظيم الله الداعي, أن لا يرد من سأله بالله. فكما عظمتموه بذلك, فلتعظموه بعبادته وتقواه. وكذلك الإخبار بأنه رقيب, أي: مطلع على العباد, في حال حركاتهم وسكونهم, وسرهم وعلنهم, وجميع الأحوال, مراقبا لهم فيها, مما يوجب مراقبته, وشدة الحياء منه, بلزوم تقواه. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة, وأنه بثهم في أقطار الأرض, مع رجوعهم إلى أصل واحد - ليعطف بعضهم على بعض, ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه, بالأمر ببر الأرحام, والنهي عن قطيعتها, ليؤكد هذا الحق. وأنه كما يلزم القيام بحق الله, كذلك يجب القيام بحقوق الخلق, خصوصا الأقربين منهم, بل القيام بحقوقهم, هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة, بالأمر بالتقوى, وصلة الأرحام والأزواج عموما. ثم بعد ذلك, فصل هذه الأمور أتم تفصيل, من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة, مفصلة لما أجمل منها, موضحة لما أبهم. وفي قوله " وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا " تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به, لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج. فبينهم وبينهن, أقرب نسب, وأشد اتصال وأوثق علاقة.
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا "
وقوله تعالى: " وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ " الآية. هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى, الذين فقدوا آباءهم, الكافلين لهم, وهم صغار ضعاف, لا يقومون بمصالحهم. فأمر الرءوف الرحيم عباده, أن يحسنوا إليهم, وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن, وأن يؤتوهم أموالهم, إذا بلغوا, ورشدوا, كاملة موفرة. وأن لا " تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ " الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. " بِالطَّيِّبِ " وهو الحلال, الذي ما فيه حرج ولا تبعة. " وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ " أي: مع أموالكم. ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم, بهذه الحالة, التي هي قد استغنى بها الإنسان, بما جعل الله له, من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة, فقد أتى " حُوبًا كَبِيرًا " أي: إثما عظيما, ووزرا جسيما. ومن استبدال الخبيث بالطيب, أن يأخذ الولي, من مال اليتيم, النفيس, ويجعل بدله من ماله, الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم, لأن من لازم إيتاء اليتيم ماله, ثبوت ولاية المؤتي على ماله. وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم, لأن تمام إيتائه ماله, حفظه, والقيام به بما يصلحه وينميه, وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.
" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا "
أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء, التي تحت حجوركم وولايتكم, وخفتم أن لا تقوموا بحقهن, لعدم محبتكم إياهن - فاعدلوا إلى غيرهن, وانكحوا " مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " أي: ما وقع عليهن اختياركم, من ذوات الدين, والمال, والجمال, والحسب, والنسب, وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن, فاختاروا على نظركم. ومن أحسن ما يختار من ذلك, صفه الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع: لمالها, ولجمالها, ولحسبها, ولدينها, فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك " . وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان, أن يختار قبل النكاح. بل قد أباح له الشارع, النظر إلى من يريد تزوجها, ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: " مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ " أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل, أو ثلاثا فليفعل, أو أربعا فليفعل, ولا يزيد عليها, لأن الآية سيقت لبيان الامتنان. فلا يحوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا. وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة, فأبيح له واحدة بعد واحدة, حتى تبلغ أربعا, لأن في الأربع, غنية لكل أحد, إلا ما ندر. ومع هذا, فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم, ووثق بالقيام بحقوقهن.
فإن خاف شيئا من هذا, فليقتصر على واحدة, أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم, في ملك اليمين. " ذَلِكَ " أي: الاقتصار على واحدة, أو ما ملكت اليمين " أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا " أي: تظلموا.
وفي هذا, إن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم, وعدم القيام بالواجب - ولو كان مباحا - أنه لا ينبغي له أن يتعرض له, بل يلزم السعة والعافية, فإن العافية خير ما أعطي العبد.
" وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا "
ولما كان كثير من الناس, يظلمون النساء, ويهضمونهن حقوقهن - خصوصا الصداق, الذي يكون شيئا كثيرا, ودفعة واحدة, يشق دفعه للزوجة - أمرهم وحثهم على إيتاء النساء " صَدُقَاتِهِنَّ " أي: مهورهن " نِحْلَةً " أي: عن طيب نفس, وحال طمأنينة, فلا تمطلوهن, أو تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة, إذا كانت مكلفة, وأنها تملكه بالعقد, لأنه أضافه إليها, والإضافة تقتضي التمليك. " فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ " أي: من الصداق " نَفْسًا " بأن سمحن لكم عن رضا واختيار, بإسقاط شيء منه, أو تأخيره أو المعاوضة عنه. " فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا " أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة. وفيه دليل على أن للمرأة, التصرف في مالها - ولو بالتبرع - إذا كانت رشيدة, فإن لم تكن كذلك, فليس لعطيتها حكم. وأنه ليس لوليها من الصداق شيء, غير ما طابت به. وفي قوله " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " دليل على أن نكاح الخبيثة, غير مأمور به, بل منهي عنه, كالمشركة, وكالفاجرة, كما قال تعالى: " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " وقال " وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ " .
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا "
السفهاء, جمع " سفيه " وهو: من لا يحسن التصرف في المال. إما لعدم عقله, كالمجنون والمعتوه, ونحوهما. وإما لعدم رشده, كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء, أن يؤتوا هؤلاء أموالهم, خشية إفسادها وإتلافها. لأن الله جعل الأموال, قياما لعباده, في مصالح دينهم ودنياهم. وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها. فأمر الله الولي أن لا يؤتيهم إياها بل يرزقهم منها, ويكسوهم, ويبذل منها, ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية, وأن يقولوا لهم قولا معروفا, بأن يعدوهم - إذا طلبوها - أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم, ونحو ذلك, ويلطفوا لهم في الأقوال, جبرا لخواطرهم. وفي إضافته تعالى, الأموال إلى الأولياء, إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء, ما يفعلونه في أموالهم, من الحفظ, والتصرف, وعدم التعرض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه, في مالهم, إذا كان لهم مال, لقوله " وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ " . وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه, في النفقة الممكنة, والكسوة. لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم, فلزم قبول قول الأمين.
" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا "
الابتلاء هو: الاختبار والامتحان. وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد, الممكن رشده, شيئا من ماله, ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله, فيتبين بذلك رشده من سفهه. فإن استمر غير محسن للتصرف, لم يدفع إليه ماله, بل هو باق على سفهه, ولو بلغ عمرا كثيرا. فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح " فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ " كاملة موفرة. " وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا " أي مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم, من أموالكم إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم. " وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا " أي: ولا تأكلوها, في حال صغرهم, التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم, ولا منعكم من أكلها, تبادرون بذلك أن يكبروا, فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها. وهذا من الأمور الواقعة, من كثير من الأولياء, الذين ليس عندهم خوف من الله, ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم. يرون هذه الحال, حال فرصة, فيغتنمونها, ويتعجلون ما حرم الله عليهم. فنهى الله تعالى, عن هذه الحالة بخصوصها.
" للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا "
كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم, لا يورثون الضعفاء, كالنساء والصبيان, ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء. لأنهم - بزعمهم - أهل الحرب والقتال, والنهب والسلب. فأراد الرب الرحيم الحكيم, أن يشرع لعباده شرعا, يستوي فيه رجالهم ونساؤهم, وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك, أمرا مجملا, لتتوطَّن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال, قد تشوفت له النفوس, وزالت الوحشة, التي منشأها, العادات القبيحة فقال: " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ " أي: قسط وحصة " مِمَّا تَرَكَ " أي: خلف " الْوَالِدَانِ " أي: الأب والأم " وَالْأَقْرَبُونَ " عموما بعد خصوص " وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ " .
فكأنه قيل: هل ذلك النصيب, راجع إلى العرف والعادة, وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى " نَصِيبًا مَفْرُوضًا " أي: قدره العليم الحكيم. وسيأتي - إن شاء الله - تقدير ذلك. وأيضا, فهنا توهم آخر, لعل أحدا يتوهم أن النساء والوالدين, ليس لهم نصيب, إلا من المال الكثير, فأزال ذلك بقوله, " مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ " فتبارك الله أحسن الحاكمين.
" وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا "
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة, الجابرة للقلوب فقال: " وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ " أي: قسمة المواريث " أُولُو الْقُرْبَى " أي: الأقارب غير الوارثين, بقرينة قوله " الْقِسْمَةَ " لأن الوارثين من المقسوم عليهم. " وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ " أي: المستحقون من الفقراء. " فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ " أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال, الذي جاءكم بغير كد ولا تعب, ولا عناء, ولا نَصَب, فإن نفوسهم متشوفة إليه, وقلوبهم متطلعة. فاجبروا خواطرهم, بما لا يضركم, وهو نافعهم. ويؤخذ من المعنى, أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان, ينبغي له أن يعطيه منه, ما تيسر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه, فليجلسه معه, فإن لم يجلسه معه, فليناوله لقمة أو لقمتين " أو كما قال: وكان الصحابة رضي الله عنهم - إذا بدأت باكورة أشجارهم - أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبرَّك عليها, ونظر إلى أصغر وليد عنده, فأعطاه ذلك, علما منه بشدة تشوفه إلى ذلك, وهذا كله, مع إمكان الإعطاء.
فإن لم يمكن ذلك - لكونه حق سفهاء, أو ثَمَّ أهم من ذلك - فليقولوا لهم " قَوْلًا مَعْرُوفًا " يردونهم ردا جميلا, بقول حسن, غير فاحش, ولا قبيح.
" وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا "
قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر, من حضره الموت وأجنف في وصيته, أن يأمره بالعدل في وصيته, والمساواة فيها بدليل قوله. " وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " أي: سدادا, موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده, بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. وقيل: إن المراد بذلك, أولياء السفهاء, من المجانين, والصغار, والضعاف, أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية, بما يحبون أن يعامل به من بعدهم, من ذريتهم الضعاف. " فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ " في ولايتهم لغيرهم, أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله, من عدم إهانتهم, والقيام عليهم, وإلزامهم لتقوى الله.
" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا "
ولما أمرهم بذلك, زجرهم عن أكل أموال اليتامى, وتوعد فقال: على ذلك أشد العذاب " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا " أي: بغير حق. وهذا القيد, يخرج به ما تقدم, من جواز الأكل للفقير بالمعروف, ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى. فمن أكلها ظلما, فإنما " يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا " أي: فإن الذي أكلوه, نار تتأجج من أجوافهم وهم الذين أدخلوه في بطونهم. " وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " أي: نارا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب, يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها, وأنها موجِبَة لدخول النار. فدل ذلك, أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.
" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما "
(أحكام المواريث - بيان أصحابها) هذه الآيات, والآية التي هي آخر السورة من آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها - مع حديث عبد الله بن عباس, الثابت في صحيح البخاري " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر " - مشتملات على جلّ أحكام الفرائض, بل على جميعها, كما سترى ذلك, إلا ميراث الجدات, فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن, عن المغيرة بن شعبة, ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس, مع إجماع العلماء على ذلك. (بيان ميراث الأولاد) " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ " أي: أولادكم - يا معشر الوالدين - عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم, لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية. فتعلمونهم وتؤدبونهم, وتكفونهم عن المفاسد, وتأمرونهم بطاعة الله, وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " فالأولاد - عند والديهم - موصى بهم. فإما أن يقوموا بتلك الوصية, فلهم جزيل الثواب. وإما أن يضيعوها, فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين, حيث أوصى الوالدين - مع كمال شفقتهما, عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم فقال " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " أي: الأولاد للصلب, والأولاد للابن, للذكر مثل حظ الأنثيين, إن لم يكن معهم صاحب فرض, أو ما أبقت الفروض, يقتسمونه كذلك. وقد أجمع العلماء على ذلك, وأنه - مع وجود أولاد الصلب - فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء, حيث كان أولاد الصلب, ذكورا وإناثا. هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور, وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث, وقد ذكره بقوله. (أحكام البنات في الميراث) " فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ " أي: بنات صلب, أو بنات ابن, ثلاثا فأكثر " فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً " أي: بنتا, أو بنت ابن " فَلَهَا النِّصْفُ " وهذا إجماع. بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين, الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله " وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ " . فمفهوم ذلك, أنه إن زادت على الواحدة, انتقل الفرض عن النصف, ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضا, فقوله " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " إذا خلف ابنا وبنتا, فإن الابن, له الثلثان, وقد أخبر الله, أنه مثل حظ الأنثيين. فدل ذلك, على أن للبنتين الثلثين. وأيضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررا عليها من أختها - فأخذها له - مع أختها - من باب أَوْلَى وأحرى. وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين " فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ " نص في الأختين الثنتين. فإذا كان الأختان الثنتان - مع بعدهما - يأخذان الثلثين, فالابنتان - مع قربهما - من باب أَوْلَى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم, ابنتي سعد, الثلثين كما في الصحيح. بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله " فَوْقَ اثْنَتَيْنِ " ؟ قيل: الفائدة في ذلك - والله أعلم - أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان, لا يزيد بزيادتهن على الثنتين, بل من الثنتين فصاعدا. ودلت الآية الكريمة, أنه إذا وجد بنت صلب واحدة, وبنت ابن أو بنات ابن, فإن لبنت الصلب, النصف, ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات, أو بنات الابن, السدس, فيعطى بنت الابن, أو بنات الابن, ولهذا يسمى هذا السدس, تكملة الثلثين. ومثل ذلك, بنت الابن, مع بنات الابن, اللاتي أنزل منها. وتدل الآية, أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين, أنه يسقط من دونهن, من بنات الابن, لأن الله لم يفرض لهن, إلا الثلثين, وقد تم. فلو لم يسقطن, لزم من ذلك أن يفرض لهن, أزيد من الثلثين, وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام, مجمع عليها بين العلماء, ولله الحمد. ودل قوله " مِمَّا تَرَكَ " أن الوارثين, يرثون كل ما خلف الميت, من عقار, وأثاث, وذهب, وفضة, وغير ذلك, حتى الدية, التي لم تجب إلا بعد موته, وحتى الديون التي في الذمة. (أحكام الأبوين في الميراث) ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: " وَلِأَبَوَيْهِ " , أي أبوه وأمه " لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ " أي: ولد صلب, أو ولد ابن, ذكرا كان أو أنثى, واحدا أو متعددا. فأما الأم, فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد. (أحكام الأب في الميراث) وأما الأب, فمع الذكور منهم, لا يستحق أزيد من السدس. فإن كان الولد أنثى أو إناثا, ولم يبق بعد الفرض شيء, كأبوين وابنتين, لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء, أخذ الأب السدس فرضا, والباقي تعصيبا. لأننا ألحقنا الفروض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر, وهو أولى من الأخ والعم, وغيرهما. " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " أي: والباقي للأب, لأنه أضاف المال إلى الأب والأم, إضافة واحدة, ثم قدر نصيب الأم, فدل ذلك, على أن الباقي للأب. وعلم من ذلك, أن الأب - مع عدم الأولاد - لا فرض له, بل يرث - تعصيبا - المال كله, أو ما أبقت الفروض. ولكن لو وجد مع الأبوين, أحد الزوجين - ويعبر عنهما بالعمريتين - فإن الزوج أو الزوجة, يأخذ فرضه, ثم تأخذ الأم ثلث الباقي, والأب الباقي. وقد دل على ذلك قوله " وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين, إما سدس في زوج وأم وأب, وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأم, ثلث المال كاملا, مع عدم الأولاد. حتى يقال: إن هاتين الصورتين, قد استثنيتا من هذا. ويوضح ذلك, أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة, بمنزلة ما يأخذه الغرماء. فيكون من رأس المال, والباقي, بين الأبوين. ولأنا لو أعطينا الأم ثلث المال, لزم زيادتها على الأب, في مسألة الزوج, أو أخذ الأب في مسألة الزوجة, زيادة عنها نصف السدس, وهذا لا نظير له. فإن المعهود مساواتها للأب, أو أخذه ضعف ما تأخذه الأم. " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ " أشقاء, أو لأب, أو لأم, ذكورا أو إناثا, وارثين, أو محجوبين بالأب, أو الجد. لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قولهِ " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ " شاملا لغير الوارثين, بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف. فعلى هذا, لا يحجبها عن الثلث من الإخوة, إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث, لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال, وهو معدوم. والله أعلم. ولكن يشرط كونهم اثنين فأكثر. ويشكل على ذلك, إتيان لفظ " الإخوة " بلفظ الجمع.
وأجيب عن ذلك, بأن المقصود, مجرد التعدد لا الجمع, ويصدق ذلك باثنين. وقد يطلق الجمع, ويراد به الاثنان كما في قوله تعالى عن داود وسليمان " وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ " وقال في الإخوة للأم: " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " . فأطلق لفظ الجمع, والمراد به, اثنان فأكثر, بالإجماع. فعلى هذا, لو خلف أما وأبا وإخوة, كان للأم السدس, والباقي للأب, فحجبوها عن الثلث, مع حجب الأب إياهم, إلا على الاحتمال الآخر, فإن للأم الثلث, والباقي للأب.
ثم قال تعالى " مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ " أي هذه الفروض والأنصباء, والمواريث, إنما ترد وتستحق, بعد نزع الديون التي على الميت لله, أو للآدميين, وبعد الوصايا, التي قد أوصى الميت بها بعد موته, فالباقي عن ذلك, هو التركة, التي يستحقها الورثة. وقدم الوصية - مع أنها مؤخرة عن الدين - للاهتمام بشأنها, لكون إخراجها, شاقا على الورثة, وإلا, فالديون مقدمة عليها, وتكون من رأس المال. وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل, للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك, فلا ينفذ, إلا بإجازة الورثة, قال تعالى: " آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا " . فلو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم, لحصل من الضرر, ما الله به عليم, لنقص العقول, وعدم معرفتها بما هو اللائق والأحسن, في كل زمان ومكان. فلا يدرون أي الأولاد, أو الوالدين, أنفع لهم وأقرب, لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. " فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا " أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علما, وأحكم ما شرعه, وقدر ما قدره, على أحسن تقدير, لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة, لكل زمان, ومكان, وحال.
" ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم "
(حكم الزوج والزوجات في الميراث) ثم قال تعالى: " وَلَكُمْ " أيها الأزواج " نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ " . ويدخل في مسمى الولد, المشروط وجوده أو عدمه, ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى, الواحد والمتعدد, الذي من الزوج, أو من غيره, ويخرج عنه, ولد البنات إجماعا. (بيان معنى (الكلالة) ونصيبها في الميراث) ثم قال تعالى " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ " أي: من أم, كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة - هنا - الإخوة للأم. فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد, أي: لا أب, ولا جد, ولا ابن, ولا ابن ابن, ولا بنت, ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي: الكلالة, كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقد حصل على ذلك, الاتفاق, ولله الحمد. " فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا " أي: من الأخ والأخت " السُّدُسُ " . " فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " أي: من واحد " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أي: لا يزيدون على الثلث, ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أن ذكرهم وأنثاهم سواء, لأن لفظ " الشريك " يقتضي التسوية. ودل لفظ " الْكَلَالَةِ " على أن الفروع وإن نزلوا, والأصول الذكور وإن علوا, يسقطون أولاد الأم, لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة, فلو لم يكن يورث كلالة, لم يرثوا منه شيئا, اتفاقا. ودل قوله " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أن الإخوة الأشقاء, يسقطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج, وأم, وإخوة أشقاء. . وللزوج, النصف. وللأم, السدس. وللأخوة للأم: الثلث. ويسقط الأشقاء, لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم. فلو شاركهم الأشقاء, لكان جمعا, لما فرق الله حكمه. وأيضا, فإن الإخوة للأم, أصحاب فروض, والأشقاء, عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر " . وأهل الفروض هم: الذين قدَّر الله أنصباءهم. ففي هذه المسألة, لا يبقى بعدهم شيء, فيسقط الأشقاء, وهذا هو الصواب في ذلك. وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء, أو لأب, فمذكور في قوله: " يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ " الآية. فالأخت الواحدة, شقيقة, أو لأب, لها النصف. والثنتان, لهما الثلثان. والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب, أو الأخوات, تأخذ النصف والباقي من الثلثين, للأخت, أو الأخوات لأب, وهو السدس, تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين, تسقط الأخوات للأب, كما تقدم في البنات, وبنات الابن. وإن كان الإخوة, رجالا ونساء, فللذكر مثل حظ الأنثيين. (حكم القاتل واختلاف دين الميت وأقربائه) فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل, والرقيق, والمخالف في في الدين, والمبعض والخنثى, والجد مع الإخوة لغير أم, والعول, والرد وذوي الأرحام, وبقية العصبة, والأخوات لغير أم, مع البنات, أو بنات الابن, من القرآن أم لا؟ قيل: نعم, فيه تنبيهات وإشارات دقيقة, يعسر فهمها على غير المتأمل, تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية, في توزيع المال على الورثة, بحسب قربهم, ونفعهم الديني والدنيوي. وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله " لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا " . وقد علم أن القاتل, قد سعى لمورثه بأعظم الضرر, فلا ينتهض ما فيه, من موجب الإرث, أن يقاوم ضرر القتل, الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعلم من ذلك, أن القتل أكبر مانع يمنع من الميراث, ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية, أن " من استعجل شيئا قبل أوانه, عوقب بحرمانه " . وبهذا ونحوه, يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له. وذلك أنه قد تعارض الموجب, الذي هو: اتصال النسب, الموجب للإرث, والمانع الذي, هو المخالفة في الدين, الموجبة للمباينة من كل وجه. فقوي المانع, ومنع موجب الإرث, الذي هو النسب. فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين, أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية. فإذا مات المسلم, انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " إذا اتفقت أديانهم. وأما مع تباينهم, فالأخوة الدينية, مقدمة على الأخوة النسبية المجردة. قال ابن القيم في " جلاء الأفهام " : " وتأمل هذا المعنى من آية المواريث,: وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة, دون المرأة كما في قوله تعالى " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ " . ففيه إيذان بأن هذا التوارث, إنما وقع بالزوجية, المقتضية للتشاكل والتناسب. والمؤمن والكافر, لا تشاكل بينهما, ولا تناسب, فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته, فوق عقول العاقلين " انتهى. (حكم الرقيق في الميراث) وأما (الرقيق), فإنه لا يرث ولا يورث. أما كونه لا يورث فواضح, لأنه ليس له مال يورث عنه, بل كل ما معه, فهو لسيده. وأما كونه لا يرث, فلأنه لا يملك, فإنه لو ملك, لكان لسيده, وهو أجنبي من الميت, فيكون مثل قوله تعالى: " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " , " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ " " فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ " ونحوها, لمن يتأتى منه التملك. وأما الرقيق, فلا يتأتى منه ذلك, فعلم أنه لا ميراث له. وأما من بعضه حر, وبعضه رقيق, فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية, يستحق بها ما رتبه الله في المواريث, لكون ما فيه من الحرية, قابلا للتملك, وما فيه من الرق, فليس بقابل لذلك. فإذًا يكون المبعض, يرث ويورث, ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا ومذموما, مثابا ومعاقبا, بقدر ما فيه من موجبات ذلك, فهذا كذلك. (حكم الخنثى والمشكل في الميراث) وأما (الخنثى) فلا يخلو, إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته, أو مشكلا. فإن كان واضحا, فالأمر فيه واضح. إن كان ذكرا, فله حكم الذكور, ويشمله النص الوارد فيهم. وإن كانت أنثى, فلها حكم الإناث, ويشملها النص الوارد فيهن. وإن كان مشكلا, فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما - كالإخوة للأم - فالأمر فيه واضح. وإن كان يختلف إرثه, بتقدير ذكوريته, وبتقدير أنوثيته, ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك, لم نعطه أكثر التقديرين, لاحتمال ظلم من معه من الورثة, ولم نعطه الأقل, لاحتمال ظلمنا إياه. فوجب التوسط بين الأمرين, وسلوك أعدل الطريقين, قال تعالى: " اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " . فليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا, أكثر من هذا الطريق المذكور. " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " . (ميراث الجد) وأما (ميراث الجد) مع الإخوة الأشقاء, أو لأب, وهل يرثون معه أم لا؟.
فقد دل كتاب الله, على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه, أن الجد يحجب الإخوة, أشقاء, أو لأب, أو لأم, كما يحجبهم الأب. وبيان ذلك: أن الجد: أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: " إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ " الآية. وقال يوسف عليه السلام " وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " . فسمى الله الجد, وجد الأب: أبا. فدل ذلك, على أن الجد, بمنزلة الأب, يرث ما يرثه الأب, ويحجب من يحجبه (أي: عند عدمه). وإذا كان العلماء, قد أجمعوا على أن الجد, حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم, من بين الإخوة والأعمام وبنيهم, وسائر أحكام المواريث - فينبغي أيضا, أن يكون حكمه حكمه, في حجب الإخوة لغير أم. وإذا كان ابن الأب بمنزلة ابن الصلب, فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب, مع ابن الأخ, قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع من يورث الإخوة مع الجد, نص ولا إشارة, ولا تنبيه, ولا قياس صحيح. (العول وأحكامه) وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن. وذلك أن الله تعالى, قد فرض, وقدر لأهل المواريث أنصباء. وهم بين حالتين. إما أن يحجب بعضهم بعضا, أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا, فالمحجوب ساقط, لا يزاحم, ولا يستحق شيئا وإن لم يحجب بعضهم بعضا, فلا يخلو. إما أن لا تستغرق الفروض التركة, أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص أو تزيد الفروض على التركة. ففي الحالتين الأوليين, كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي - ما إذا زادت الفروض على التركة - فلا يخلو من حالين. إما أن ننقص بعض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له, ونكمل للباقين منهم فروضهم, وهذا ترجيح بغير مرجح, وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر. فتعينت الحال الثانية, وهو: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه, بقدر الإمكان, ونحاصص بينهم, كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم. ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول. فعلم من هذا, أن العول في الفرائض, قد بينه الله في كتابه. (بيان أحكام الرد على أصحاب الفرائض) وبعكس هذه الطريقة بعينها, يعلم (الرد). فإن أهل الفروض - إذا لم تستغرق فروضهم التركة, وبقي شيء ليس له مستحق, من عاصب قريب ولا بعيد, فإن رده على أحدهم, ترجيح بغير مرجح, وإعطاؤه غيرهم, ممن ليس بقريب للميت, جنف وميل, ومعارضة لقوله " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . فتعين أن يرد على أهل الفروض, بقدر فروضهم. (حكم الرد على الزوجين في الميراث) ولما كان الزوجان, ليسا من القرابة, لم يستحقا الزيادة على فرضهم المقدر عند القائلين, بعدم الرد عليهما. وأما على القول الصحيح أن حكم الزوجين, حكم باقي الورثة في الرد, فالدليل المذكور, شامل للجميع, كما شملهم دليل العول. (حكم ذوي الأرحام في الميراث) وبهذا يعلم أيضا, ميراث ذوي الأرحام. فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض, ولا عاصبا, وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال, لمنافع الأجانب, وبين كون ماله يرجع إلى أقربائه المدلين بالورثة, المجمع عليهم, تعين الثاني. ويدل على ذلك قوله تعالى: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . فصرفه لغيرهم, ترك لمن هو أولى من غيره, فتعين توريث ذوي الأرحام. وإذا تعين توريثهم, فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط, صاروا - بسببها - من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم. (بيان من هم عصبة الميت وحكمهم في الميراث) وأما (ميراث بقية العصبة) كالبنوة والأخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فلأولى رجل ذكر " . وقال تعالى: " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ " . فإذا ألحقنا الفروض بأهلها, ولم يبق شيء, لم يستحق العاصب شيئا. وإن بقي شيء, أخذة أولي العصبة, بحسب جهاتهم, ودرجاتهم. (جهات العصبة) فإن جهات العصوبة خمس: البنوة, ثم الأبوة ثم الأخوة وبنوهم, ثم العمومة وبنوهم, ثم الولاء, ويقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة, فالأقرب منزلة. فإن كانوا بمنزلة واحدة, فالأقوى, وهو الشقيق. فإن تساووا من كل وجه, اشتركوا. والله أعلم. وأما كون الأخوات لغير أم, مع البنات, أو بنات الابن عصبات, يأخذن ما فضل عن فروضهن, فلأنه ليس في القرآن, ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات. فإذا كان الأمر كذلك, وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن, فإنه يعطى للأخوات, ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن, كابن الأخ والعم, ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.
" تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم "
أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث, حدود الله, التي يجب الوقوف معها, وعدم مجاوزتها, ولا القصور عنها. وفي ذلك دليل, على أن الوصية للوارث منسوخة, بتقديره تعالى أنصباء الوارثين. ثم قوله تعالى " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا " فالوصية للوارث, بزيادة على حقه, يدخل في هذا التعدي, مع قوله صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " . ثم ذكر طاعة الله ورسوله, ومعصيتهما, عموما, ليدخل في العموم, لزوم حدوده في الفرائض, أو ترك ذلك فقال: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بامتثال أمرهما, الذي أعظمه, طاعتهما في التوحيد, ثم الأوامر على اختلاف درجاتها, واجتناب نهيهما, الذي أعظمه الشرك بالله, ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها " يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا " . فمن أدى الأوامر, واجتنب النواهي, فلا بد له من دخول الجنة, والنجاة من النار. " وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " الذي حصل به النجاة, من سخطه وعذابه, والفوز بثوابه ورضوانه, بالنعيم المقيم, الذي لا يصفه الواصفون.
" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين "
" وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " . إلخ ويدخل في اسم المعصية, الكفر فما دونه من المعاصي. فلا يكون فيها شبهة للخوارج, القائلين بكفر أهل المعاصي. فإن الله تعالى رتب دخول الجنة, على طاعته, وطاعة رسوله. ورتب دخول النار, على معصيته ومعصية رسوله. فمن أطاعه طاعة تامة, دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله, معصية تامة, يدخل فيها الشرك, فما دونه, دخل النار وخلد فيها. ومن اجتمع فيه معصية وطاعة, كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة, على أن الموحدين, الذين معهم طاعة التوحيد, غير مخلدين في النار. فما معهم من التوحيد, مانع لهم من الخلود فيها.
" واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا "
أي: النساء اللاتي " يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ " أي: الزنا. فوصفها بالفاحشة, لشناعتها وقبحها. " فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ " أي: من رجالكم المؤمنين العدول. " فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ " احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا, فإن الحبس, من جملة العقوبات. " حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ " أي: هذا منتهى الحبس. " أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا " أي: طريقا غير الحبس في البيوت. فهذه الآية ليست منسوخة, فإنما هي, مغياة إلى ذلك الوقت. فكان الأمر في أول الإسلام كذلك, حتى جعل الله لهن سبيلا, وهو رجم المحصن والمحصنة وجلد غير المحصن والمحصنة.
" واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما "
وكذلك اللذان " يَأْتِيَانِهَا " أي: الفاحشة " مِنْكُمْ " من الرجال والنساء " فَآذُوهُمَا " بالقول والتوبيخ والتعيير, والضرب الرادع عن هذه الفاحشة. فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون, والنساء يحبسن ويؤذين. فالحبس غايته للموت, والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح. ولهذا قال " فَإِنْ تَابَا " أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه, وندما عليه, وعزما أن لا يعودا " وَأَصْلَحَا " العمل الدال على صدق التوبة " فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا " أي: عن أذاهما " إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا " أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين, عظيم الرحمة والإحسان, الذي - من إحسانه - وفقهم للتوبة, وقبلها منهم, وسامحهم عن ما صدر منهم. ويؤخذ من هاتين الآيتين, أن بينة الزنا, أن تكون أربعة رجال مؤمنين. ومن باب أولى وأحرى, اشتراط عدالتهم. لأن الله تعالى, شدد في أمر هذه الفاحشة, سترا لعباده. حتى إنه, لا يقبل فيها النساء منفردات, ولا مع الرجل, ولا مع دون أربعة. ولابد من التصريح بالشهادة, كما دلت على ذلك, الأحاديث الصحيحة وتومئ إليه هذه الآية لما قال " فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ " . لم يكتف بذلك حتى قال " فَإِنْ شَهِدُوا " أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانا, من غير تعريض, ولا كناية. ويؤخذ منهما, أن الأذية بالقول والفعل, والحبس, قد شرعه الله, تعزيرا لجنس المعصية, الذي يحصل به الزجر.
" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما "
توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة, وقبول لها, بعد وجودها من العبد. فأخبر هنا - أن التوبة المستحقة على الله, حق أحقه على نفسه, كرما منه وجودا, لمن عمل السوء أي: المعاصي " بِجَهَالَةٍ " أي: جهالة منه لعاقبتها, وإيجابها لسخط الله وعقابه, وجهل منه, لنظر الله ومراقبته له, وجهل منه, بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه. فكل عاص لله, فهو جاهل بهذا الاعتبار, وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم, شرط لكونها معصية, معاقبا عليها. " ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ " يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت. فإن الله يقبل توبة العبد, إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب, قطعا. وأما بعد حضور الموت, فلا يقبل من العاصين توبتهم, ولا من الكفار رجوع, كما قال تعالى عن فرعون: " حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " الآية. وقال تعالى: " فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ " وقال هنا:
" وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما "
" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ " أي: المعاصي فيما دون الكفر. " حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " . وذلك, أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار, لا تنفع صاحبها. إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله " من قريب " أي: قريب من فعلهم الذنب, الموجب للتوبة. فيكون المعنى: من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب, وأناب إلى الله, وندم عليه فإن الله يتوب عليه. بخلاف من استمر على ذنبه, وأصر على عيوبه, حتى صارت فيه صفات راسخة, فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يرفق للتوبة, ولا ييسر لأسبابها. كالذي يعمل السوء على علم قائم, ويقين متهاون بنظر الله إليه, فإنه يسد على نفسه, باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب, على عمد ويقين, للتوبة النافعة, التي يمحو بها ما سلف من سيئاته, وما تقدم من جناياته ولكن الرحمة والتوفيق للأول, أقرب. ولهذا ختم الآية الأولى بقوله " وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " . فمن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها, فيجازي كلا منهما, بحسب ما استحق بحكمته. ومن حكمته, أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته, توفيقه للتوبة. ويخذل من اقتضت حكمته وعدله, عدم توفيقه. والله أعلم. | |
| | | مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: رد: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:15 pm | |
| | |
| | | مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: رد: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:16 pm | |
| - مهندس رمضان كتب:
تفسير السعدي - سورة النساء يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا "
افتتح تعالى هذه السورة, بالأمر بتقواه, والحث على عبادته, والأمر بصلة الأرحام, والحث على ذلك. وبين السبب الداعي, الموجب لكل من ذلك, وأن الموجب لتقواه أنه " رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ " ورزقكم, ورباكم بنعمه العظيمة, التي من جملتها خلقكم " مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا " ليناسبها, فيسكن إليها, وتتم بذلك النعمة, ويحصل به السرور. وكذلك, من الموجب الداعي لتقواه, تساؤلكم به, وتعظيمكم. حتى إنكم إذا أردتم قضاء حاجاتكم ومآربكم, توسلتم بها, بالسؤال. فيقول من يريد ذلك لغيره: أسألك بالله, أن تفعل الأمر الفلاني. لعلمه بما قام في قلبه, من تعظيم الله الداعي, أن لا يرد من سأله بالله. فكما عظمتموه بذلك, فلتعظموه بعبادته وتقواه. وكذلك الإخبار بأنه رقيب, أي: مطلع على العباد, في حال حركاتهم وسكونهم, وسرهم وعلنهم, وجميع الأحوال, مراقبا لهم فيها, مما يوجب مراقبته, وشدة الحياء منه, بلزوم تقواه. وفي الإخبار بأنه خلقهم من نفس واحدة, وأنه بثهم في أقطار الأرض, مع رجوعهم إلى أصل واحد - ليعطف بعضهم على بعض, ويرقق بعضهم على بعض. وقرن الأمر بتقواه, بالأمر ببر الأرحام, والنهي عن قطيعتها, ليؤكد هذا الحق. وأنه كما يلزم القيام بحق الله, كذلك يجب القيام بحقوق الخلق, خصوصا الأقربين منهم, بل القيام بحقوقهم, هو من حق الله الذي أمر به. وتأمل كيف افتتح هذه السورة, بالأمر بالتقوى, وصلة الأرحام والأزواج عموما. ثم بعد ذلك, فصل هذه الأمور أتم تفصيل, من أول السورة إلى آخرها. فكأنها مبنية على هذه الأمور المذكورة, مفصلة لما أجمل منها, موضحة لما أبهم. وفي قوله " وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا " تنبيه على مراعاة حق الأزواج والزوجات والقيام به, لكون الزوجات مخلوقات من الأزواج. فبينهم وبينهن, أقرب نسب, وأشد اتصال وأوثق علاقة.
" وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا "
وقوله تعالى: " وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ " الآية. هذا أول ما أوصى به من حقوق الخلق في هذه السورة. وهم اليتامى, الذين فقدوا آباءهم, الكافلين لهم, وهم صغار ضعاف, لا يقومون بمصالحهم. فأمر الرءوف الرحيم عباده, أن يحسنوا إليهم, وأن لا يقربوا أموالهم إلا بالتي هي أحسن, وأن يؤتوهم أموالهم, إذا بلغوا, ورشدوا, كاملة موفرة. وأن لا " تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ " الذي هو أكل مال اليتيم بغير حق. " بِالطَّيِّبِ " وهو الحلال, الذي ما فيه حرج ولا تبعة. " وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ " أي: مع أموالكم. ففيه تنبيه لقبح أكل مالهم, بهذه الحالة, التي هي قد استغنى بها الإنسان, بما جعل الله له, من الرزق في ماله. فمن تجرأ على هذه الحالة, فقد أتى " حُوبًا كَبِيرًا " أي: إثما عظيما, ووزرا جسيما. ومن استبدال الخبيث بالطيب, أن يأخذ الولي, من مال اليتيم, النفيس, ويجعل بدله من ماله, الخسيس. وفيه الولاية على اليتيم, لأن من لازم إيتاء اليتيم ماله, ثبوت ولاية المؤتي على ماله. وفيه الأمر بإصلاح مال اليتيم, لأن تمام إيتائه ماله, حفظه, والقيام به بما يصلحه وينميه, وعدم تعريضه للمخاوف والأخطار.
" وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا "
أي: وإن خفتم ألا تعدلوا في يتامى النساء, التي تحت حجوركم وولايتكم, وخفتم أن لا تقوموا بحقهن, لعدم محبتكم إياهن - فاعدلوا إلى غيرهن, وانكحوا " مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " أي: ما وقع عليهن اختياركم, من ذوات الدين, والمال, والجمال, والحسب, والنسب, وغير ذلك من الصفات الداعية لنكاحهن, فاختاروا على نظركم. ومن أحسن ما يختار من ذلك, صفه الدين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " تنكح المرأة لأربع: لمالها, ولجمالها, ولحسبها, ولدينها, فاظفر بذات الدين تَرِبَتْ يمينك " . وفي هذه الآية - أنه ينبغي للإنسان, أن يختار قبل النكاح. بل قد أباح له الشارع, النظر إلى من يريد تزوجها, ليكون على بصيرة من أمره. ثم ذكر العدد الذي أباحه من النساء فقال: " مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ " أي: من أحب أن يأخذ اثنتين فليفعل, أو ثلاثا فليفعل, أو أربعا فليفعل, ولا يزيد عليها, لأن الآية سيقت لبيان الامتنان. فلا يحوز الزيادة على غير ما سمى الله تعالى إجماعا. وذلك لأن الرجل قد لا تندفع شهوته بالواحدة, فأبيح له واحدة بعد واحدة, حتى تبلغ أربعا, لأن في الأربع, غنية لكل أحد, إلا ما ندر. ومع هذا, فإنما يباح له ذلك إذا أمن على نفسه الجور والظلم, ووثق بالقيام بحقوقهن.
فإن خاف شيئا من هذا, فليقتصر على واحدة, أو على ملك يمينه. فإنه لا يجب عليه القسم, في ملك اليمين. " ذَلِكَ " أي: الاقتصار على واحدة, أو ما ملكت اليمين " أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا " أي: تظلموا.
وفي هذا, إن تعرض العبد للأمر الذي يخاف منه الجور والظلم, وعدم القيام بالواجب - ولو كان مباحا - أنه لا ينبغي له أن يتعرض له, بل يلزم السعة والعافية, فإن العافية خير ما أعطي العبد.
" وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا "
ولما كان كثير من الناس, يظلمون النساء, ويهضمونهن حقوقهن - خصوصا الصداق, الذي يكون شيئا كثيرا, ودفعة واحدة, يشق دفعه للزوجة - أمرهم وحثهم على إيتاء النساء " صَدُقَاتِهِنَّ " أي: مهورهن " نِحْلَةً " أي: عن طيب نفس, وحال طمأنينة, فلا تمطلوهن, أو تبخسوا منه شيئا. وفيه: أن المهر يدفع إلى المرأة, إذا كانت مكلفة, وأنها تملكه بالعقد, لأنه أضافه إليها, والإضافة تقتضي التمليك. " فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ " أي: من الصداق " نَفْسًا " بأن سمحن لكم عن رضا واختيار, بإسقاط شيء منه, أو تأخيره أو المعاوضة عنه. " فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا " أي: لا حرج عليكم في ذلك ولا تبعة. وفيه دليل على أن للمرأة, التصرف في مالها - ولو بالتبرع - إذا كانت رشيدة, فإن لم تكن كذلك, فليس لعطيتها حكم. وأنه ليس لوليها من الصداق شيء, غير ما طابت به. وفي قوله " فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ " دليل على أن نكاح الخبيثة, غير مأمور به, بل منهي عنه, كالمشركة, وكالفاجرة, كما قال تعالى: " وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ " وقال " وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ " .
" ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولا معروفا "
السفهاء, جمع " سفيه " وهو: من لا يحسن التصرف في المال. إما لعدم عقله, كالمجنون والمعتوه, ونحوهما. وإما لعدم رشده, كالصغير وغير الرشيد. فنهى الله الأولياء, أن يؤتوا هؤلاء أموالهم, خشية إفسادها وإتلافها. لأن الله جعل الأموال, قياما لعباده, في مصالح دينهم ودنياهم. وهؤلاء لا يحسنون القيام عليها وحفظها. فأمر الله الولي أن لا يؤتيهم إياها بل يرزقهم منها, ويكسوهم, ويبذل منها, ما يتعلق بضروراتهم وحاجاتهم الدينية والدنيوية, وأن يقولوا لهم قولا معروفا, بأن يعدوهم - إذا طلبوها - أنهم سيدفعونها لهم بعد رشدهم, ونحو ذلك, ويلطفوا لهم في الأقوال, جبرا لخواطرهم. وفي إضافته تعالى, الأموال إلى الأولياء, إشارة إلى أنه يجب عليهم أن يعملوا في أموال السفهاء, ما يفعلونه في أموالهم, من الحفظ, والتصرف, وعدم التعرض للأخطار. وفي الآية دليل على أن نفقة المجنون والصغير والسفيه, في مالهم, إذا كان لهم مال, لقوله " وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ " . وفيه دليل على أن قول الولي مقبول فيما يدعيه, في النفقة الممكنة, والكسوة. لأن الله جعله مؤتمنا على مالهم, فلزم قبول قول الأمين.
" وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم وكفى بالله حسيبا "
الابتلاء هو: الاختبار والامتحان. وذلك بأن يدفع لليتيم المقارب للرشد, الممكن رشده, شيئا من ماله, ويتصرف فيه التصرف اللائق بحاله, فيتبين بذلك رشده من سفهه. فإن استمر غير محسن للتصرف, لم يدفع إليه ماله, بل هو باق على سفهه, ولو بلغ عمرا كثيرا. فإن تبين رشده وصلاحه في ماله وبلغ النكاح " فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ " كاملة موفرة. " وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا " أي مجاوزة للحد الحلال الذي أباحه الله لكم, من أموالكم إلى الحرام الذي حرمه الله عليكم من أموالهم. " وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا " أي: ولا تأكلوها, في حال صغرهم, التي لا يمكنهم فيها أخذها منكم, ولا منعكم من أكلها, تبادرون بذلك أن يكبروا, فيأخذوها منكم ويمنعوكم منها. وهذا من الأمور الواقعة, من كثير من الأولياء, الذين ليس عندهم خوف من الله, ولا رحمة ومحبة للمولى عليهم. يرون هذه الحال, حال فرصة, فيغتنمونها, ويتعجلون ما حرم الله عليهم. فنهى الله تعالى, عن هذه الحالة بخصوصها.
" للرجال نصيب مما ترك الوالدان والأقربون وللنساء نصيب مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر نصيبا مفروضا "
كان العرب في الجاهلية - من جبروتهم وقسوتهم, لا يورثون الضعفاء, كالنساء والصبيان, ويجعلون الميراث للرجال الأقوياء. لأنهم - بزعمهم - أهل الحرب والقتال, والنهب والسلب. فأراد الرب الرحيم الحكيم, أن يشرع لعباده شرعا, يستوي فيه رجالهم ونساؤهم, وأقوياؤهم وضعفاؤهم. وقدم بين يدي ذلك, أمرا مجملا, لتتوطَّن على ذلك النفوس. فيأتي التفصيل بعد الإجمال, قد تشوفت له النفوس, وزالت الوحشة, التي منشأها, العادات القبيحة فقال: " لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ " أي: قسط وحصة " مِمَّا تَرَكَ " أي: خلف " الْوَالِدَانِ " أي: الأب والأم " وَالْأَقْرَبُونَ " عموما بعد خصوص " وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ " .
فكأنه قيل: هل ذلك النصيب, راجع إلى العرف والعادة, وأن يرضخوا لهم ما يشاءون؟ أو شيئا مقدرا؟ فقال تعالى " نَصِيبًا مَفْرُوضًا " أي: قدره العليم الحكيم. وسيأتي - إن شاء الله - تقدير ذلك. وأيضا, فهنا توهم آخر, لعل أحدا يتوهم أن النساء والوالدين, ليس لهم نصيب, إلا من المال الكثير, فأزال ذلك بقوله, " مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ " فتبارك الله أحسن الحاكمين.
" وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه وقولوا لهم قولا معروفا "
وهذا من أحكام الله الحسنة الجليلة, الجابرة للقلوب فقال: " وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ " أي: قسمة المواريث " أُولُو الْقُرْبَى " أي: الأقارب غير الوارثين, بقرينة قوله " الْقِسْمَةَ " لأن الوارثين من المقسوم عليهم. " وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ " أي: المستحقون من الفقراء. " فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ " أي: أعطوهم ما تيسر من هذا المال, الذي جاءكم بغير كد ولا تعب, ولا عناء, ولا نَصَب, فإن نفوسهم متشوفة إليه, وقلوبهم متطلعة. فاجبروا خواطرهم, بما لا يضركم, وهو نافعهم. ويؤخذ من المعنى, أن كل من له تطلع وتشوف إلى ما حضر بين يدي الإنسان, ينبغي له أن يعطيه منه, ما تيسر كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: " إذا جاء أحدكم خادمه بطعامه, فليجلسه معه, فإن لم يجلسه معه, فليناوله لقمة أو لقمتين " أو كما قال: وكان الصحابة رضي الله عنهم - إذا بدأت باكورة أشجارهم - أتوا بها رسول الله صلى الله عليه وسلم, فبرَّك عليها, ونظر إلى أصغر وليد عنده, فأعطاه ذلك, علما منه بشدة تشوفه إلى ذلك, وهذا كله, مع إمكان الإعطاء.
فإن لم يمكن ذلك - لكونه حق سفهاء, أو ثَمَّ أهم من ذلك - فليقولوا لهم " قَوْلًا مَعْرُوفًا " يردونهم ردا جميلا, بقول حسن, غير فاحش, ولا قبيح.
" وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم فليتقوا الله وليقولوا قولا سديدا "
قيل: إن هذا خطاب لمن يحضر, من حضره الموت وأجنف في وصيته, أن يأمره بالعدل في وصيته, والمساواة فيها بدليل قوله. " وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا " أي: سدادا, موافقا للقسط والمعروف. وأنهم يأمرون من يريد الوصية على أولاده, بما يحبون معاملة أولادهم بعدهم. وقيل: إن المراد بذلك, أولياء السفهاء, من المجانين, والصغار, والضعاف, أن يعاملوهم في مصالحهم الدينية والدنيوية, بما يحبون أن يعامل به من بعدهم, من ذريتهم الضعاف. " فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ " في ولايتهم لغيرهم, أي: يعاملونهم بما فيه تقوى الله, من عدم إهانتهم, والقيام عليهم, وإلزامهم لتقوى الله.
" إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا وسيصلون سعيرا "
ولما أمرهم بذلك, زجرهم عن أكل أموال اليتامى, وتوعد فقال: على ذلك أشد العذاب " إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا " أي: بغير حق. وهذا القيد, يخرج به ما تقدم, من جواز الأكل للفقير بالمعروف, ومن جواز خلط طعامهم بطعام اليتامى. فمن أكلها ظلما, فإنما " يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا " أي: فإن الذي أكلوه, نار تتأجج من أجوافهم وهم الذين أدخلوه في بطونهم. " وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا " أي: نارا محرقة متوقدة. وهذا أعظم وعيد ورد في الذنوب, يدل على شناعة أكل أموال اليتامى وقبحها, وأنها موجِبَة لدخول النار. فدل ذلك, أنها من أكبر الكبائر. نسأل الله العافية.
" يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك وإن كانت واحدة فلها النصف ولأبويه لكل واحد منهما السدس مما ترك إن كان له ولد فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث فإن كان له إخوة فلأمه السدس من بعد وصية يوصي بها أو دين آباؤكم وأبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا فريضة من الله إن الله كان عليما حكيما "
(أحكام المواريث - بيان أصحابها) هذه الآيات, والآية التي هي آخر السورة من آيات المواريث المتضمنة لها. فإنها - مع حديث عبد الله بن عباس, الثابت في صحيح البخاري " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر " - مشتملات على جلّ أحكام الفرائض, بل على جميعها, كما سترى ذلك, إلا ميراث الجدات, فإنه غير مذكور في ذلك. لكنه قد ثبت في السنن, عن المغيرة بن شعبة, ومحمد بن مسلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم أعطى الجدة السدس, مع إجماع العلماء على ذلك. (بيان ميراث الأولاد) " يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ " أي: أولادكم - يا معشر الوالدين - عندكم ودائع قد وصاكم الله عليهم, لتقوموا بمصالحهم الدينية والدنيوية. فتعلمونهم وتؤدبونهم, وتكفونهم عن المفاسد, وتأمرونهم بطاعة الله, وملازمة التقوى على الدوام كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ " فالأولاد - عند والديهم - موصى بهم. فإما أن يقوموا بتلك الوصية, فلهم جزيل الثواب. وإما أن يضيعوها, فيستحقوا بذلك الوعيد والعقاب. وهذا مما يدل على أن الله تعالى أرحم بعباده من الوالدين, حيث أوصى الوالدين - مع كمال شفقتهما, عليهم. ثم ذكر كيفية إرثهم فقال " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " أي: الأولاد للصلب, والأولاد للابن, للذكر مثل حظ الأنثيين, إن لم يكن معهم صاحب فرض, أو ما أبقت الفروض, يقتسمونه كذلك. وقد أجمع العلماء على ذلك, وأنه - مع وجود أولاد الصلب - فالميراث لهم. وليس لأولاد الابن شيء, حيث كان أولاد الصلب, ذكورا وإناثا. هذا مع اجتماع الذكور والإناث. وهنا حالتان: انفراد الذكور, وسيأتي حكمها. وانفراد الإناث, وقد ذكره بقوله. (أحكام البنات في الميراث) " فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ " أي: بنات صلب, أو بنات ابن, ثلاثا فأكثر " فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً " أي: بنتا, أو بنت ابن " فَلَهَا النِّصْفُ " وهذا إجماع. بقي أن يقال: من أين يستفاد أن للابنتين الثنتين, الثلثين بعد الإجماع على ذلك؟ فالجواب أنه يستفاد من قوله " وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ " . فمفهوم ذلك, أنه إن زادت على الواحدة, انتقل الفرض عن النصف, ولا ثَمَّ بعده إلا الثلثان. وأيضا, فقوله " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " إذا خلف ابنا وبنتا, فإن الابن, له الثلثان, وقد أخبر الله, أنه مثل حظ الأنثيين. فدل ذلك, على أن للبنتين الثلثين. وأيضا فإن البنت إذا أخذت الثلث مع أخيها - وهو أزيد ضررا عليها من أختها - فأخذها له - مع أختها - من باب أَوْلَى وأحرى. وأيضا فإن قوله تعالى في الأختين " فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ " نص في الأختين الثنتين. فإذا كان الأختان الثنتان - مع بعدهما - يأخذان الثلثين, فالابنتان - مع قربهما - من باب أَوْلَى وأحرى. وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم, ابنتي سعد, الثلثين كما في الصحيح. بقي أن يقال: فما الفائدة في قوله " فَوْقَ اثْنَتَيْنِ " ؟ قيل: الفائدة في ذلك - والله أعلم - أنه ليعلم أن الفرض الذي هو الثلثان, لا يزيد بزيادتهن على الثنتين, بل من الثنتين فصاعدا. ودلت الآية الكريمة, أنه إذا وجد بنت صلب واحدة, وبنت ابن أو بنات ابن, فإن لبنت الصلب, النصف, ويبقى من الثلثين اللذين فرضهما الله للبنات, أو بنات الابن, السدس, فيعطى بنت الابن, أو بنات الابن, ولهذا يسمى هذا السدس, تكملة الثلثين. ومثل ذلك, بنت الابن, مع بنات الابن, اللاتي أنزل منها. وتدل الآية, أنه متى استغرق البنات أو بنات الابن الثلثين, أنه يسقط من دونهن, من بنات الابن, لأن الله لم يفرض لهن, إلا الثلثين, وقد تم. فلو لم يسقطن, لزم من ذلك أن يفرض لهن, أزيد من الثلثين, وهو خلاف النص. وكل هذه الأحكام, مجمع عليها بين العلماء, ولله الحمد. ودل قوله " مِمَّا تَرَكَ " أن الوارثين, يرثون كل ما خلف الميت, من عقار, وأثاث, وذهب, وفضة, وغير ذلك, حتى الدية, التي لم تجب إلا بعد موته, وحتى الديون التي في الذمة. (أحكام الأبوين في الميراث) ثم ذكر ميراث الأبوين فقال: " وَلِأَبَوَيْهِ " , أي أبوه وأمه " لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ " أي: ولد صلب, أو ولد ابن, ذكرا كان أو أنثى, واحدا أو متعددا. فأما الأم, فلا تزيد على السدس مع أحد من الأولاد. (أحكام الأب في الميراث) وأما الأب, فمع الذكور منهم, لا يستحق أزيد من السدس. فإن كان الولد أنثى أو إناثا, ولم يبق بعد الفرض شيء, كأبوين وابنتين, لم يبق له تعصيب. وإن بقي بعد فرض البنت أو البنات شيء, أخذ الأب السدس فرضا, والباقي تعصيبا. لأننا ألحقنا الفروض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر, وهو أولى من الأخ والعم, وغيرهما. " فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " أي: والباقي للأب, لأنه أضاف المال إلى الأب والأم, إضافة واحدة, ثم قدر نصيب الأم, فدل ذلك, على أن الباقي للأب. وعلم من ذلك, أن الأب - مع عدم الأولاد - لا فرض له, بل يرث - تعصيبا - المال كله, أو ما أبقت الفروض. ولكن لو وجد مع الأبوين, أحد الزوجين - ويعبر عنهما بالعمريتين - فإن الزوج أو الزوجة, يأخذ فرضه, ثم تأخذ الأم ثلث الباقي, والأب الباقي. وقد دل على ذلك قوله " وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ " ثلث ما ورثه الأبوان. وهو في هاتين الصورتين, إما سدس في زوج وأم وأب, وإما ربع في زوجة وأم وأب. فلم تدل الآية على إرث الأم, ثلث المال كاملا, مع عدم الأولاد. حتى يقال: إن هاتين الصورتين, قد استثنيتا من هذا. ويوضح ذلك, أن الذي يأخذه الزوج أو الزوجة, بمنزلة ما يأخذه الغرماء. فيكون من رأس المال, والباقي, بين الأبوين. ولأنا لو أعطينا الأم ثلث المال, لزم زيادتها على الأب, في مسألة الزوج, أو أخذ الأب في مسألة الزوجة, زيادة عنها نصف السدس, وهذا لا نظير له. فإن المعهود مساواتها للأب, أو أخذه ضعف ما تأخذه الأم. " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ " أشقاء, أو لأب, أو لأم, ذكورا أو إناثا, وارثين, أو محجوبين بالأب, أو الجد. لكن قد يقال: ليس ظاهرُ قولهِ " فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ " شاملا لغير الوارثين, بدليل عدم تناولها للمحجوب بالنصف. فعلى هذا, لا يحجبها عن الثلث من الإخوة, إلا الإخوة الوارثون. ويؤيده أن الحكمة في حجبهم لها عن الثلث, لأجل أن يتوفر لهم شيء من المال, وهو معدوم. والله أعلم. ولكن يشرط كونهم اثنين فأكثر. ويشكل على ذلك, إتيان لفظ " الإخوة " بلفظ الجمع.
وأجيب عن ذلك, بأن المقصود, مجرد التعدد لا الجمع, ويصدق ذلك باثنين. وقد يطلق الجمع, ويراد به الاثنان كما في قوله تعالى عن داود وسليمان " وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ " وقال في الإخوة للأم: " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " . فأطلق لفظ الجمع, والمراد به, اثنان فأكثر, بالإجماع. فعلى هذا, لو خلف أما وأبا وإخوة, كان للأم السدس, والباقي للأب, فحجبوها عن الثلث, مع حجب الأب إياهم, إلا على الاحتمال الآخر, فإن للأم الثلث, والباقي للأب.
ثم قال تعالى " مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ " أي هذه الفروض والأنصباء, والمواريث, إنما ترد وتستحق, بعد نزع الديون التي على الميت لله, أو للآدميين, وبعد الوصايا, التي قد أوصى الميت بها بعد موته, فالباقي عن ذلك, هو التركة, التي يستحقها الورثة. وقدم الوصية - مع أنها مؤخرة عن الدين - للاهتمام بشأنها, لكون إخراجها, شاقا على الورثة, وإلا, فالديون مقدمة عليها, وتكون من رأس المال. وأما الوصية فإنها تصح من الثلث فأقل, للأجنبي الذي هو غير وارث. وأما غير ذلك, فلا ينفذ, إلا بإجازة الورثة, قال تعالى: " آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا " . فلو رد تقدير الإرث إلى عقولكم واختياركم, لحصل من الضرر, ما الله به عليم, لنقص العقول, وعدم معرفتها بما هو اللائق والأحسن, في كل زمان ومكان. فلا يدرون أي الأولاد, أو الوالدين, أنفع لهم وأقرب, لحصول مقاصدهم الدينية والدنيوية. " فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا " أي: فرضها الله الذي قد أحاط بكل شيء علما, وأحكم ما شرعه, وقدر ما قدره, على أحسن تقدير, لا تستطيع العقول أن تقترح مثل أحكامه الصالحة الموافقة, لكل زمان, ومكان, وحال.
" ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منهما السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث من بعد وصية يوصى بها أو دين غير مضار وصية من الله والله عليم حليم "
(حكم الزوج والزوجات في الميراث) ثم قال تعالى: " وَلَكُمْ " أيها الأزواج " نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ " . ويدخل في مسمى الولد, المشروط وجوده أو عدمه, ولد الصلب أو ولد الابن الذكر والأنثى, الواحد والمتعدد, الذي من الزوج, أو من غيره, ويخرج عنه, ولد البنات إجماعا. (بيان معنى (الكلالة) ونصيبها في الميراث) ثم قال تعالى " وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ " أي: من أم, كما هي في بعض القراءات. وأجمع العلماء على أن المراد بالإخوة - هنا - الإخوة للأم. فإذا كان يورث كلالة أي: ليس للميت والد ولا ولد, أي: لا أب, ولا جد, ولا ابن, ولا ابن ابن, ولا بنت, ولا بنت ابن وإن نزلوا. وهذه هي: الكلالة, كما فسرها بذلك أبو بكر الصديق رضي الله عنه, وقد حصل على ذلك, الاتفاق, ولله الحمد. " فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا " أي: من الأخ والأخت " السُّدُسُ " . " فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ " أي: من واحد " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أي: لا يزيدون على الثلث, ولو زادوا عن اثنين. ودل قوله " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أن ذكرهم وأنثاهم سواء, لأن لفظ " الشريك " يقتضي التسوية. ودل لفظ " الْكَلَالَةِ " على أن الفروع وإن نزلوا, والأصول الذكور وإن علوا, يسقطون أولاد الأم, لأن الله لم يورثهم إلا في الكلالة, فلو لم يكن يورث كلالة, لم يرثوا منه شيئا, اتفاقا. ودل قوله " فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ " أن الإخوة الأشقاء, يسقطون في المسألة المسماة بالحمارية. وهى: زوج, وأم, وإخوة أشقاء. . وللزوج, النصف. وللأم, السدس. وللأخوة للأم: الثلث. ويسقط الأشقاء, لأن الله أضاف الثلث للإخوة من الأم. فلو شاركهم الأشقاء, لكان جمعا, لما فرق الله حكمه. وأيضا, فإن الإخوة للأم, أصحاب فروض, والأشقاء, عصبات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي, فلأولى رجل ذكر " . وأهل الفروض هم: الذين قدَّر الله أنصباءهم. ففي هذه المسألة, لا يبقى بعدهم شيء, فيسقط الأشقاء, وهذا هو الصواب في ذلك. وأما ميراث الإخوة والأخوات الأشقاء, أو لأب, فمذكور في قوله: " يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ " الآية. فالأخت الواحدة, شقيقة, أو لأب, لها النصف. والثنتان, لهما الثلثان. والشقيقة الواحدة مع الأخت للأب, أو الأخوات, تأخذ النصف والباقي من الثلثين, للأخت, أو الأخوات لأب, وهو السدس, تكملة الثلثين. وإذ استغرقت الشقيقات الثلثين, تسقط الأخوات للأب, كما تقدم في البنات, وبنات الابن. وإن كان الإخوة, رجالا ونساء, فللذكر مثل حظ الأنثيين. (حكم القاتل واختلاف دين الميت وأقربائه) فإن قيل: فهل يستفاد حكم ميراث القاتل, والرقيق, والمخالف في في الدين, والمبعض والخنثى, والجد مع الإخوة لغير أم, والعول, والرد وذوي الأرحام, وبقية العصبة, والأخوات لغير أم, مع البنات, أو بنات الابن, من القرآن أم لا؟ قيل: نعم, فيه تنبيهات وإشارات دقيقة, يعسر فهمها على غير المتأمل, تدل على جميع المذكورات. فأما (القاتل والمخالف في الدين) فيعرف أنهما غير وارثين من بيان الحكمة الإلهية, في توزيع المال على الورثة, بحسب قربهم, ونفعهم الديني والدنيوي. وقد أشار تعالى إلى هذه الحكمة بقوله " لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا " . وقد علم أن القاتل, قد سعى لمورثه بأعظم الضرر, فلا ينتهض ما فيه, من موجب الإرث, أن يقاوم ضرر القتل, الذي هو ضد النفع الذي رتب عليه الإرث. فعلم من ذلك, أن القتل أكبر مانع يمنع من الميراث, ويقطع الرحم الذي قال الله فيه: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . مع أنه قد استقرت القاعدة الشرعية, أن " من استعجل شيئا قبل أوانه, عوقب بحرمانه " . وبهذا ونحوه, يعرف أن المخالف لدين الموروث لا إرث له. وذلك أنه قد تعارض الموجب, الذي هو: اتصال النسب, الموجب للإرث, والمانع الذي, هو المخالفة في الدين, الموجبة للمباينة من كل وجه. فقوي المانع, ومنع موجب الإرث, الذي هو النسب. فلم يعمل الموجب لقيام المانع. يوضح ذلك أن الله تعالى قد جعل حقوق المسلمين, أولى من حقوق الأقارب الكفار الدنيوية. فإذا مات المسلم, انتقل ماله إلى من هو أولى وأحق به. فيكون قوله تعالى: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " إذا اتفقت أديانهم. وأما مع تباينهم, فالأخوة الدينية, مقدمة على الأخوة النسبية المجردة. قال ابن القيم في " جلاء الأفهام " : " وتأمل هذا المعنى من آية المواريث,: وتعليقه سبحانه التوارث فيها بلفظ الزوجة, دون المرأة كما في قوله تعالى " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ " . ففيه إيذان بأن هذا التوارث, إنما وقع بالزوجية, المقتضية للتشاكل والتناسب. والمؤمن والكافر, لا تشاكل بينهما, ولا تناسب, فلا يقع بينهما التوارث. وأسرار مفردات القرآن ومركباته, فوق عقول العاقلين " انتهى. (حكم الرقيق في الميراث) وأما (الرقيق), فإنه لا يرث ولا يورث. أما كونه لا يورث فواضح, لأنه ليس له مال يورث عنه, بل كل ما معه, فهو لسيده. وأما كونه لا يرث, فلأنه لا يملك, فإنه لو ملك, لكان لسيده, وهو أجنبي من الميت, فيكون مثل قوله تعالى: " لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ " , " وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ " " فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ " ونحوها, لمن يتأتى منه التملك. وأما الرقيق, فلا يتأتى منه ذلك, فعلم أنه لا ميراث له. وأما من بعضه حر, وبعضه رقيق, فإنه تتبعض أحكامه. فما فيه من الحرية, يستحق بها ما رتبه الله في المواريث, لكون ما فيه من الحرية, قابلا للتملك, وما فيه من الرق, فليس بقابل لذلك. فإذًا يكون المبعض, يرث ويورث, ويحجب بقدر ما فيه من الحرية. وإذا كان العبد يكون محمودا ومذموما, مثابا ومعاقبا, بقدر ما فيه من موجبات ذلك, فهذا كذلك. (حكم الخنثى والمشكل في الميراث) وأما (الخنثى) فلا يخلو, إما أن يكون واضحا ذكوريته أو أنوثيته, أو مشكلا. فإن كان واضحا, فالأمر فيه واضح. إن كان ذكرا, فله حكم الذكور, ويشمله النص الوارد فيهم. وإن كانت أنثى, فلها حكم الإناث, ويشملها النص الوارد فيهن. وإن كان مشكلا, فإن كان الذكر والأنثى لا يختلف إرثهما - كالإخوة للأم - فالأمر فيه واضح. وإن كان يختلف إرثه, بتقدير ذكوريته, وبتقدير أنوثيته, ولم يبق لنا طريق إلى العلم بذلك, لم نعطه أكثر التقديرين, لاحتمال ظلم من معه من الورثة, ولم نعطه الأقل, لاحتمال ظلمنا إياه. فوجب التوسط بين الأمرين, وسلوك أعدل الطريقين, قال تعالى: " اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى " . فليس لنا طريق إلى العدل في مثل هذا, أكثر من هذا الطريق المذكور. " لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا " " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " . (ميراث الجد) وأما (ميراث الجد) مع الإخوة الأشقاء, أو لأب, وهل يرثون معه أم لا؟.
فقد دل كتاب الله, على قول أبي بكر الصديق رضي الله عنه, أن الجد يحجب الإخوة, أشقاء, أو لأب, أو لأم, كما يحجبهم الأب. وبيان ذلك: أن الجد: أب في غير موضع من القرآن كقوله تعالى: " إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ " الآية. وقال يوسف عليه السلام " وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ " . فسمى الله الجد, وجد الأب: أبا. فدل ذلك, على أن الجد, بمنزلة الأب, يرث ما يرثه الأب, ويحجب من يحجبه (أي: عند عدمه). وإذا كان العلماء, قد أجمعوا على أن الجد, حكمه حكم الأب عند عدمه في ميراثه مع الأولاد وغيرهم, من بين الإخوة والأعمام وبنيهم, وسائر أحكام المواريث - فينبغي أيضا, أن يكون حكمه حكمه, في حجب الإخوة لغير أم. وإذا كان ابن الأب بمنزلة ابن الصلب, فلم لا يكون الجد بمنزلة الأب؟ وإذا كان جد الأب, مع ابن الأخ, قد اتفق العلماء على أنه يحجبه. فلم لا يحجب جد الميت أخاه؟ فليس مع من يورث الإخوة مع الجد, نص ولا إشارة, ولا تنبيه, ولا قياس صحيح. (العول وأحكامه) وأما مسائل (العول) فإنه يستفاد حكمها من القرآن. وذلك أن الله تعالى, قد فرض, وقدر لأهل المواريث أنصباء. وهم بين حالتين. إما أن يحجب بعضهم بعضا, أو لا. فإن حجب بعضهم بعضا, فالمحجوب ساقط, لا يزاحم, ولا يستحق شيئا وإن لم يحجب بعضهم بعضا, فلا يخلو. إما أن لا تستغرق الفروض التركة, أو تستغرقها من غير زيادة ولا نقص أو تزيد الفروض على التركة. ففي الحالتين الأوليين, كل يأخذ فرضه كاملا. وفي الحالة الأخيرة وهي - ما إذا زادت الفروض على التركة - فلا يخلو من حالين. إما أن ننقص بعض الورثة عن فرضه الذي فرضه الله له, ونكمل للباقين منهم فروضهم, وهذا ترجيح بغير مرجح, وليس نقصان أحدهم بأولى من الآخر. فتعينت الحال الثانية, وهو: أننا نعطي كل واحد منهم نصيبه, بقدر الإمكان, ونحاصص بينهم, كديون الغرماء الزائدة على مال الغريم. ولا طريق موصل إلى ذلك إلا بالعول. فعلم من هذا, أن العول في الفرائض, قد بينه الله في كتابه. (بيان أحكام الرد على أصحاب الفرائض) وبعكس هذه الطريقة بعينها, يعلم (الرد). فإن أهل الفروض - إذا لم تستغرق فروضهم التركة, وبقي شيء ليس له مستحق, من عاصب قريب ولا بعيد, فإن رده على أحدهم, ترجيح بغير مرجح, وإعطاؤه غيرهم, ممن ليس بقريب للميت, جنف وميل, ومعارضة لقوله " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . فتعين أن يرد على أهل الفروض, بقدر فروضهم. (حكم الرد على الزوجين في الميراث) ولما كان الزوجان, ليسا من القرابة, لم يستحقا الزيادة على فرضهم المقدر عند القائلين, بعدم الرد عليهما. وأما على القول الصحيح أن حكم الزوجين, حكم باقي الورثة في الرد, فالدليل المذكور, شامل للجميع, كما شملهم دليل العول. (حكم ذوي الأرحام في الميراث) وبهذا يعلم أيضا, ميراث ذوي الأرحام. فإن الميت إذا لم يخلف صاحب فرض, ولا عاصبا, وبقي الأمر دائرا بين كون ماله يكون لبيت المال, لمنافع الأجانب, وبين كون ماله يرجع إلى أقربائه المدلين بالورثة, المجمع عليهم, تعين الثاني. ويدل على ذلك قوله تعالى: " وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ " . فصرفه لغيرهم, ترك لمن هو أولى من غيره, فتعين توريث ذوي الأرحام. وإذا تعين توريثهم, فقد علم أنه ليس لهم نصيب مقدر بأعيانهم في كتاب الله. وأن بينهم وبين الميت وسائط, صاروا - بسببها - من الأقارب. فينزلون منزلة من أدلوا به من تلك الوسائط. والله أعلم. (بيان من هم عصبة الميت وحكمهم في الميراث) وأما (ميراث بقية العصبة) كالبنوة والأخوة وبنيهم والأعمام وبنيهم إلخ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال " ألحقوا الفرائض بأهلها, فما بقي فلأولى رجل ذكر " . وقال تعالى: " وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ " . فإذا ألحقنا الفروض بأهلها, ولم يبق شيء, لم يستحق العاصب شيئا. وإن بقي شيء, أخذة أولي العصبة, بحسب جهاتهم, ودرجاتهم. (جهات العصبة) فإن جهات العصوبة خمس: البنوة, ثم الأبوة ثم الأخوة وبنوهم, ثم العمومة وبنوهم, ثم الولاء, ويقدم منهم الأقرب جهة. فإن كانوا في جهة واحدة, فالأقرب منزلة. فإن كانوا بمنزلة واحدة, فالأقوى, وهو الشقيق. فإن تساووا من كل وجه, اشتركوا. والله أعلم. وأما كون الأخوات لغير أم, مع البنات, أو بنات الابن عصبات, يأخذن ما فضل عن فروضهن, فلأنه ليس في القرآن, ما يدل على أن الأخوات يسقطن بالبنات. فإذا كان الأمر كذلك, وبقي شيء بعد أخذ البنات فرضهن, فإنه يعطى للأخوات, ولا يعدل عنهن إلى عصبة أبعد منهن, كابن الأخ والعم, ومن هو أبعد منهم. والله أعلم.
" تلك حدود الله ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم "
أي: تلك التفاصيل التي ذكرها في المواريث, حدود الله, التي يجب الوقوف معها, وعدم مجاوزتها, ولا القصور عنها. وفي ذلك دليل, على أن الوصية للوارث منسوخة, بتقديره تعالى أنصباء الوارثين. ثم قوله تعالى " تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا " فالوصية للوارث, بزيادة على حقه, يدخل في هذا التعدي, مع قوله صلى الله عليه وسلم " لا وصية لوارث " . ثم ذكر طاعة الله ورسوله, ومعصيتهما, عموما, ليدخل في العموم, لزوم حدوده في الفرائض, أو ترك ذلك فقال: " وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " بامتثال أمرهما, الذي أعظمه, طاعتهما في التوحيد, ثم الأوامر على اختلاف درجاتها, واجتناب نهيهما, الذي أعظمه الشرك بالله, ثم المعاصي على اختلاف طبقاتها " يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا " . فمن أدى الأوامر, واجتنب النواهي, فلا بد له من دخول الجنة, والنجاة من النار. " وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " الذي حصل به النجاة, من سخطه وعذابه, والفوز بثوابه ورضوانه, بالنعيم المقيم, الذي لا يصفه الواصفون.
" ومن يعص الله ورسوله ويتعد حدوده يدخله نارا خالدا فيها وله عذاب مهين "
" وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ " . إلخ ويدخل في اسم المعصية, الكفر فما دونه من المعاصي. فلا يكون فيها شبهة للخوارج, القائلين بكفر أهل المعاصي. فإن الله تعالى رتب دخول الجنة, على طاعته, وطاعة رسوله. ورتب دخول النار, على معصيته ومعصية رسوله. فمن أطاعه طاعة تامة, دخل الجنة بلا عذاب. ومن عصى الله ورسوله, معصية تامة, يدخل فيها الشرك, فما دونه, دخل النار وخلد فيها. ومن اجتمع فيه معصية وطاعة, كان فيه من موجب الثواب والعقاب بحسب ما فيه من الطاعة والمعصية. وقد دلت النصوص المتواترة, على أن الموحدين, الذين معهم طاعة التوحيد, غير مخلدين في النار. فما معهم من التوحيد, مانع لهم من الخلود فيها.
" واللاتي يأتين الفاحشة من نسائكم فاستشهدوا عليهن أربعة منكم فإن شهدوا فأمسكوهن في البيوت حتى يتوفاهن الموت أو يجعل الله لهن سبيلا "
أي: النساء اللاتي " يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ " أي: الزنا. فوصفها بالفاحشة, لشناعتها وقبحها. " فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ " أي: من رجالكم المؤمنين العدول. " فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ " احبسوهن عن الخروج الموجب للريبة. وأيضا, فإن الحبس, من جملة العقوبات. " حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ " أي: هذا منتهى الحبس. " أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا " أي: طريقا غير الحبس في البيوت. فهذه الآية ليست منسوخة, فإنما هي, مغياة إلى ذلك الوقت. فكان الأمر في أول الإسلام كذلك, حتى جعل الله لهن سبيلا, وهو رجم المحصن والمحصنة وجلد غير المحصن والمحصنة.
" واللذان يأتيانها منكم فآذوهما فإن تابا وأصلحا فأعرضوا عنهما إن الله كان توابا رحيما "
وكذلك اللذان " يَأْتِيَانِهَا " أي: الفاحشة " مِنْكُمْ " من الرجال والنساء " فَآذُوهُمَا " بالقول والتوبيخ والتعيير, والضرب الرادع عن هذه الفاحشة. فعلى هذا يكون الرجال إذا فعلوا الفاحشة يؤذون, والنساء يحبسن ويؤذين. فالحبس غايته للموت, والأذية نهايتها إلى التوبة والإصلاح. ولهذا قال " فَإِنْ تَابَا " أي: رجعا عن الذنب الذي فعلاه, وندما عليه, وعزما أن لا يعودا " وَأَصْلَحَا " العمل الدال على صدق التوبة " فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا " أي: عن أذاهما " إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا " أي: كثير التوبة على المذنبين الخطائين, عظيم الرحمة والإحسان, الذي - من إحسانه - وفقهم للتوبة, وقبلها منهم, وسامحهم عن ما صدر منهم. ويؤخذ من هاتين الآيتين, أن بينة الزنا, أن تكون أربعة رجال مؤمنين. ومن باب أولى وأحرى, اشتراط عدالتهم. لأن الله تعالى, شدد في أمر هذه الفاحشة, سترا لعباده. حتى إنه, لا يقبل فيها النساء منفردات, ولا مع الرجل, ولا مع دون أربعة. ولابد من التصريح بالشهادة, كما دلت على ذلك, الأحاديث الصحيحة وتومئ إليه هذه الآية لما قال " فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ " . لم يكتف بذلك حتى قال " فَإِنْ شَهِدُوا " أي: لا بد من شهادة صريحة عن أمر يشاهد عيانا, من غير تعريض, ولا كناية. ويؤخذ منهما, أن الأذية بالقول والفعل, والحبس, قد شرعه الله, تعزيرا لجنس المعصية, الذي يحصل به الزجر.
" إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليما حكيما "
توبة الله على عباده نوعان: توفيق منه للتوبة, وقبول لها, بعد وجودها من العبد. فأخبر هنا - أن التوبة المستحقة على الله, حق أحقه على نفسه, كرما منه وجودا, لمن عمل السوء أي: المعاصي " بِجَهَالَةٍ " أي: جهالة منه لعاقبتها, وإيجابها لسخط الله وعقابه, وجهل منه, لنظر الله ومراقبته له, وجهل منه, بما تئول إليه من نقص الإيمان أو إعدامه. فكل عاص لله, فهو جاهل بهذا الاعتبار, وإن كان عالما بالتحريم. بل العلم بالتحريم, شرط لكونها معصية, معاقبا عليها. " ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ " يحتمل أن يكون المعنى: ثم يتوبون قبل معاينة الموت. فإن الله يقبل توبة العبد, إذا تاب قبل معاينة الموت والعذاب, قطعا. وأما بعد حضور الموت, فلا يقبل من العاصين توبتهم, ولا من الكفار رجوع, كما قال تعالى عن فرعون: " حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ " الآية. وقال تعالى: " فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ " وقال هنا:
" وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابا أليما "
" وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ " أي: المعاصي فيما دون الكفر. " حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا " . وذلك, أن التوبة في هذه الحال توبة اضطرار, لا تنفع صاحبها. إنما تنفع توبة الاختيار. ويحتمل أن يكون معنى قوله " من قريب " أي: قريب من فعلهم الذنب, الموجب للتوبة. فيكون المعنى: من بادر إلى الإقلاع من حين صدور الذنب, وأناب إلى الله, وندم عليه فإن الله يتوب عليه. بخلاف من استمر على ذنبه, وأصر على عيوبه, حتى صارت فيه صفات راسخة, فإنه يعسر عليه إيجاد التوبة التامة. والغالب أنه لا يرفق للتوبة, ولا ييسر لأسبابها. كالذي يعمل السوء على علم قائم, ويقين متهاون بنظر الله إليه, فإنه يسد على نفسه, باب الرحمة. نعم قد يوفق الله عبده المصر على الذنوب, على عمد ويقين, للتوبة النافعة, التي يمحو بها ما سلف من سيئاته, وما تقدم من جناياته ولكن الرحمة والتوفيق للأول, أقرب. ولهذا ختم الآية الأولى بقوله " وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " . فمن علمه أنه يعلم صادق التوبة وكاذبها, فيجازي كلا منهما, بحسب ما استحق بحكمته. ومن حكمته, أن يوفق من اقتضت حكمته ورحمته, توفيقه للتوبة. ويخذل من اقتضت حكمته وعدله, عدم توفيقه. والله أعلم. | |
| | | مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: رد: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:21 pm | |
| | |
| | | مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: رد: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:22 pm | |
| | |
| | | مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: رد: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:24 pm | |
| لا يستوي القا
عدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما "
أي: لا يستوي من جاهد من المؤمنين, بنفسه وماله, ومن لم يخرج للجهاد, ولم يقاتل أعداء الله. ففيه الحث على الخروج للجهاد, والترغيب في ذلك, والترهيب من التكاسل, والقعود عنه, من غير عذر. وأما أهل الضرر, كالمريض, والأعمى, والأعرج, والذي لا يجد ما يتجهز به, فإنهم ليسوا بمنزلة القاعدين, من غير عذر. فمن كان من أولي الضرر, راضيا بقعوده, لا ينوي الخروج في سبيل الله, لولا وجود المانع, ولا يُحَدِّث نفسه بذلك, فإنه بمنزلة القاعد لغير عذر. ومن كان عازما على الخروج في سبيل الله, لولا وجود المانع, يتمنى ذلك, ويُحَدِّث به نفسه, فإنه بمنزلة من خرج للجهاد. لأن النية الجازمة, إذا اقترن بها مقدورها, من القول, أو الفعل - ينزل صاحبها منزلة الفاعل. ثم صرح تعالى, بتفضيل المجاهدين على القاعدين, بالدرجة أي: الرفعة, وهذا تفضيل على وجه الإجمال. ثم صرح بذلك على وجه التفصيل, ووعدهم بالمغفرة الصادرة من ربهم والرحمة التي تشتمل على حصول كل خير, واندفاع كل شر. والدرجات التي فصلها النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث الثابت عنه في الصحيحين, أن في الجنة مائة درجة, ما بين كل درجتين, كما بين السماء والأرض, أعدها الله للمجاهدين في سبيله. وهذا الثواب, الذي رتبه الله على الجهاد, نظير الذي في سورة الصف في قوله: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ " إلى آخر السورة. وتأمل حسن هذا الانتقال, من حالة إلى أعلى منها. فإنه نفى التسوية أولا, بين المجاهد وغيره. ثم صرح بتفضيل المجاهد على القاعد بدرجة. ثم انتقل إلى تفضيله بالمغفرة, والرحمة, والدرجات. وهذا الانتقال من حالة إلى أعلى منها عند التفضيل, والمدح, أو النزول من حالة إلى ما دونها, عند القدح والذم - أحسن لفظا, وأوقع في النفس. وكذلك إذا فضل تعالى, شيئا على شيء, وكل منهما له فضل, احترز بذكر الفضل الجامع للأمرين, لئلا يتوهم أحد, ذم المفضل عليه كما قال هنا " وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى " . وكما قال تعالى في الآيات المذكورة في الصف في قوله: " وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ " وكما في قوله تعالى " لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ " .
أي: ممن لم يكن كذلك. ثم قال: " وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى " .
وكما قال تعالى " فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا " . فينبغي لمن يبحث في التفضيل بين الأشخاص, والطوائف, والأعمال, أن يفطن لهذه النكتة. وكذلك لو تكلم في ذم الأشخاص والمقالات, ذكر ما تجتمع فيه, عند تفضيل بعضها على بعض, لئلا يتوهم أن المفضَّل, قد حصل له الكمال. كما إذا قيل: النصارى خير من المجوس, فليقل - مع ذلك - وكل منهما كافر. والقتل أشنع من الزنا, وكل منهما معصية كبيرة, حرمها الله ورسوله وزجر عنها.
" درجات منه ومغفرة ورحمة وكان الله غفورا رحيما "
ولما وعد المجاهدين بالمغفرة والرحمة الصادرَيْن عن اسميه الكريمين " الْغَفُورُ الرَّحِيمُ " ختم هذا الآية بهما فقال " وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " .
" إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا "
هذا الوعيد الشديد, لمن ترك الهجرة, مع قدرته عليها, حتى مات. فإن الملائكة الذين يقبضون روحه, يوبخونه بهذا التوبيخ العظيم, ويقولون لهم " فِيمَ كُنْتُمْ " أي: على أي حال كنتم؟ وبأي شيء تميزتم عن المشركين؟ بل كثرتم سوادهم, وربما ظاهرتموهم على المؤمنين, وفاتكم الخير الكثير, والجهاد مع رسوله, والكون مع المسلمين ومعاونتهم على أعدائهم. " قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ " أي: ضعفاء مقهورين مظلومين, ليس لنا قدرة على الهجرة. وهم غير صادقين في ذلك, لأن الله وبخهم, وتوعدهم, ولا يكلف الله نفسا إلا وسعها. واستثنى المستضعفين حقيقة, ولهذا قالت لهم الملائكة " أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا " وهذا استفهام تقرير, أي: قد تقرر عند كل أحد, أن أرض الله واسعة. فحيثما كان العبد في محل, لا يتمكن فيه من إظهار دينه, فإن له متسعا وفسحة من الأرض, يتمكن فيها من عبادة الله كما قال تعالى: " يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ " . قال الله عن هؤلاء الذين لا عذر لهم " فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا " وهذا كما تقدم, فيه ذكر بيان السبب الموجِب, فقد يترتب عليه, مقتضاه, مع اجتماع شروطه, وانتفاء موانعه, وقد يمنع من ذلك مانع. وفي الآية دليل على أن الهجرة, من أكبر الواجبات, وتركها, من المحرمات, بل من أكبر الكبائر. وفي الآية دليل على أن كل من توفي, فقد استكمل واستوفى, ما قدر له من الرزق, والأجل, والعمل, وذلك مأخوذ من لفظ " التوفي " فإنه يدل على ذلك. لأنه لو بقي عليه شيء من ذلك, لم يكن متوفيا. وفيه الإيمان بالملائكة ومدحهم, لأن الله ساق ذلك الخطاب لهم, على وجه التقرير والاستحسان منهم, وموافقته لمحله.
" إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا "
ثم استثنى المستضعفين على الحقيقة, الذين لا قدرة لهم على الهجرة بوجه من الوجوه فقال: " وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا " .
" فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورا "
فهؤلاء قال الله فيهم: " فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا " .
و " عسى " ونحوها, واجب وقوعها من الله تعالى, بمقتضى كرمه وإحسانه. وفي الترجية بالثواب, لمن عمل بعض الأعمال, فائدة. وهو أنه قد لا يوفيه حق توفيته, ولا يعمله على الوجه اللائق الذي ينبغي. بل يكون مقصرا, فلا يستحق ذلك الثواب. والله أعلم. وفي الآية الكريمة دليل على أن من عجز عن المأمور, من واجب وغيره, فإنه معذور, كما قال تعالى في العاجزين عن الجهاد: " لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ " .
وقال في عموم الأوامر " فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ " . وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " إذا أمرتكم بأمر, فأتوا منه ما استطعتم " . ولكن لا يعذر الإنسان إلا إذا بذل جهده, وانسدت عليه أبواب الحيل لقوله: " لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً " . وفي الآية تنبيه على أن الدليل في الحج والعمرة, ونحوهما - مما يحتاج إلى سفر - من شروط الاستطاعة.
" ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة ومن يخرج من بيته مهاجرا إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله وكان الله غفورا رحيما "
هذا في بيان الحث على الهجرة, والترغيب, وبيان ما فيها من المصالح, فوعد الصادق في وعده, أن من هاجر في سبيله, ابتغاء مرضاته, أنه يجد مراغما في الأرض وسعة, فالمراغم مشتمل على مصالح الدين والسعة على مصالح الدنيا. وذلك أن كثيرا من الناس يتوهم أن في الهجرة شتاتا بعد الألفة, وفقرا بعد الغنى, وذلك بعد العز, وشدة بعد الرخاء. والأمر ليس كذلك, فإن المؤمن, ما دام بين أظهر المشركين, فدينه في غاية النقص, لا في العبادات القاصرة عليه, كالصلاة ونحوها, ولا في العبادات المتعدية, كالجهاد بالقول والفعل, وتوابع ذلك, لعدم تمكنه من من ذلك, وهو بصدد أن يفتن عن دينه, خصوصا, إن كان مستضعفا. فإذا هاجر في سبيل الله, تمكن من إقامة دين الله, وجهاد أعداء الله, ومراغمتهم. فإن المراغمة اسم جامع لكل ما يحصل به إغاظة لأعداء الله, من قول وفعل. وكذلك ما يحصل له سعة في رزقه, وقد وقع كما أخبر الله تعالى. واعتبر ذلك بالصحابة رضي الله عنهم, فإنهم لما هاجروا في سبيل الله وتركوا ديارهم, وأولادهم, وأموالهم لله, كمل بذلك إيمانهم, وحصل لهم من الإيمان التام, والجهاد العظيم, والنصر لدين الله, ما كانوا به أئمة لمن بعدهم. وكذلك حصل لهم, ما يترتب على ذلك من الفتوحات والغنائم, ما كانوا به أغنى الناس. وهكذا كل من فعل فعلهم, يحصل لهم ما حصل لهم, إلى يوم القيامة. ثم قال " وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ " أي: قاصدا ربه, ورضاه, ومحبته لرسوله, ونصرا لدين الله, لا لغير ذلك من المقاصد. " ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ " بقتل أو غيره. " فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " أي: فقد حصل له أجر المهاجر, الذي أدرك مقصوده بضمان الله تعالى. وذلك, لأنه نوى وجزم, وحصل منه ابتداء, وشروع في العمل. فمن رحمة الله به وبأمثاله, أن أعطاهم أجرهم كاملا, ولو لم يكملوا العمل وغفر لهم, ما حصل منهم من التقصير في الهجرة وغيرها. ولهذا ختم هذه الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال: " وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " يغفر للمؤمنين, ما اقترفوه من الخطيئات, خصوصا, التائبين المنيبين إلى ربهم. " رَحِيمًا " بجميع الخلق, رحمة أوجدتهم وعافتهم, ورزقتهم من المال والبنين والقوة, وغير ذلك. رحيما بالمؤمنين, حيث وفقهم للإيمان, وعلمهم من العلم, ما يحصل به الإيقان, ويسر لهم أسباب السعادة والفلاح, وما به يدركون غاية الأرباح. وسيرون من رحمته وكرمه, ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر. فنسأل الله, أن لا يحرمنا خيره, بشر ما عندنا.
" وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا "
هاتان الآيتان, أصل في رخصة القصر, وصلاة الخوف. يقول تعالى " وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ " أي: في السفر, وظاهر الآية, أنه يقتضي الترخيص في أي سفر كان, ولو كان سفر معصية, كما هو مذهب أبي حنيفة رحمه الله, وخالف في ذلك الجمهور, وهم الأئمة الثلاثة وغيرهم, فلم يجوزوا الترخيص في سفر المعصية, تخصيصا للآية بالمعنى والمناسبة, فإن الرخصة سهولة من الله لعباده, إذا سافروا أن يقصروا ويفطروا. والعاصي بسفره, لا يناسب حاله التخفيف. وقوله " فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ " أي: لا حرج ولا إثم عليكم في ذلك. ولا ينافي ذلك, كون القصر هو الأفضل, لأن نفي الحرج, إزالة لبعض الوهم الواقع في كثير من النفوس. بل ولا ينافي الوجوب, كما تقدم ذلك في سورة البقرة, في قوله " إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ " إلى آخر الآية. وإزالة الوهم في هذا الموضع ظاهرة, لأن الصلاة قد تقرر عند المسلمين, وجوبها على هذه الصفة التامة, ولا يزيل هذا عن نفوس أكثرهم, إلا بذكر ما ينافيه. ويدل على أفضلية القصر على الإتمام أمران. أحدهما: ملازمة النبي صلى الله عليه وسلم على القصر في جميع أسفاره. والثاني: أن هذا من باب التوسعة والترخيص والرحمة بالعباد. والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه, كما يكره أن تؤتى معصيته. وقوله " أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ " ولم يقل أن تقصروا الصلاة, فيه فائدتان. إحداهما: أنه لو قال أن تقصروا الصلاة, لكان القصر غير منضبط بحد من الحدود. فربما ظن أنه لو قصر معظم الصلاة, وجعلها ركعة واحدة, لأجزأه. فإتيانه بقوله " مِنَ الصَّلَاةِ " ليدل ذلك على أن القصر محدود مضبوط, مرجوع فيه إلى ما تقرر من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه. الثانية أن " من " تفيد التبعيض, ليعلم بذلك أن القصر لبعض الصلوات المفروضات, لا جميعها. فإن الفجر والمغرب, لا يقصران, وإنما الذي يقصر, الصلاة الرباعية من أربع, إلى ركعتين. فإذا تقرر أن القصر في السفر, رخصة, فاعلم أن المفسرين قد اختلفوا في هذا القيد, وهو قوله: " إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " الذي يدل ظاهره, أن القصر لا يجوز إلا بوجود الأمرين كليهما, السفر مع الخوف. ويرجع حاصل اختلافهم إلى أنه هل المراد بقوله " أَنْ تَقْصُرُوا " قصر العدد فقط؟ أو قصر العدد والصفة؟ فالإشكال, إنما يكون على الوجه الأول. وقد أشكل هذا على أمير المؤمنين, عمر بن الخطاب رضي الله عنه, حتى سأل عنه النبي صلى الله عليه وسلم, فقال: يا رسول الله, ما لنا نقصر الصلاة وقد أمنا؟ أي والله يقول " إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا " . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " صدقة تصدق الله بها عليكم, فاقبلوا صدقته " أو كما قال. فعلى هذا يكون هذا القيد أتى به, نظرا لغالب الحال, التي كان النبي صلى الله عليه وسلم, وأصحابه عليها. فإن غالب أسفاره أسفار جهاد. وفيه فائدة أخرى, وهي بيان الحكمة والمصلحة, في مشروعية رخصة القصر. فبين في هذه الآية أنهى ما يتصور من المشقة المناسبة للرخصة, وهي اجتماع السفر والخوف. ولا يستلزم ذلك أن لا يقصر مع السفر وحده, الذي هو مظنة المشقة. وأما على الوجه الثاني, وهو أن المراد بالقصر: قصر العدد والصفة, فإن القيد على بابه. فإذا وجد السفر والخوف جاز قصر العدد, وقصر الصفة. وإذا وجد السفر وحده, جاز قصر العدد فقط. أو الخوف وحده, جاز قصر الصفة.
" وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا "
ولذلك أتى بصفة صلاة الخوف بعدها بقوله " وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ " أي: صليت بهم صلاة تقيمها, وتتم ما يجب فيها, ويلزم فعلهم ما ينبغي لك ولهم, فعله. ثم فسر ذلك بقوله " فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ " أي: وطائفة قائمة بإزاء العدو, كما يدل على ذلك ما يأتي: " فَإِذَا سَجَدُوا " أي: الذين معك أي: أكملوا صلاتهم, وعبر عن الصلاة بالسجود, ليدل على فضل السجود, وأنه ركن من أركانها, بل هو أعظم أركانها. " فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا " وهم الطائفة الذين قاموا إزاء العدو " فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ " . ودل ذلك على أن الإمام يبقى بعد انصراف الطائفة الأولى, منتظرا للطائفة الثانية, فإذا حضروا صلى بهم ما بقي من صلاته ثم جلس ينتظرهم, حتى يكملوا صلاتهم, ثم يسلم بهم, وهذا أحد الوجوه في صلاة الخوف. فإنها صحت عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه كثيرة, كلها جائزة. وهذه الآية, تدل على أن صلاة الجماعة, فرض عين من وجهين: أحدهما: أن الله تعالى أمر بها في هذه الحالة الشديدة, وقت اشتداد الخوف من الأعداء, وحذر مهاجمتهم. فإذا أوجبها في هذه الحالة الشديدة, فإيجابها في حالة الطمأنينة والأمن, من باب أَوْلَى وأحرى. والثاني: أن المصلين صلاة الخوف, يتركون فيها كثيرا من الشروط واللوازم, ويعفى فيها, عن كثير من الأفعال المبطلة في غيرها, وما ذاك إلا لتأكد وجوب الجماعة, لأنه لا تعارض بين واجب ومستحب. فلولا وجوب الجماعة, لم تترك هذه الأمور اللازمة لأجلها. وتدل الآية الكريمة على أن الأولى والأفضل, أن يصلوا بإمام واحد. ولو تضمن ذلك الإخلال بشيء, لا يخل به لو صلوها بعدة أئمة, وذلك لأجل اجتماع كلمة المسلمين, واتفاقهم, وعدم تفرق كلمتهم, وليكون ذلك أوقع هيبة في قلوب أعدائهم. وأمر تعالى, بأخذ السلاح, والحذر في صلاة الخوف. وهذا, وإن كان فيه حركة, واشتغال عن بعض أحوال الصلاة, فإن فيه مصلحة راجحة, وهو الجمع بين الصلاة والجهاد, والحذر من الأعداء الحريصين غاية الحرص, على الإيقاع بالمسلمين, والميل عليهم وعلى أمتعتهم ولهذا قال تعالى: " وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً " . ثم إن الله عذر من له عذر, من مرض, أو مطر, أن يضع سلاحه, ولكن مع أخذ الحذر فقال: " وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا " . ومن العذاب المهين, ما أمر الله به حزبه المؤمنين, وأنصار دينه الموحدين, من قتلهم وقتالهم, حيثما ثقفوهم, ويأخذوهم, ويحصروهم, ويقعدوا لهم كل مرصد, ويحذروهم في جميع الأحوال, ولا يغفلوا عنهم, خشية أن ينال الكفار بعض مطلوبهم فيهم. فلله أعظم حمد وثناء, على ما مَنَّ به على المؤمنين, وأيَّدَهم بمعونته وتعاليمه, التي لو سلكوها على وجه الكمال, لم تهزم لهم راية, ولم يظهر عليهم عدو, في وقت من الأوقات. وقوله " فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ " يدل على أن هذه الطائفة تكمل جميع صلاتها قبل ذهابهم إلى موضع الحارسين. وأن الرسول صلى الله عليه وسلم يثبت منتظرا للطائفة الأخرى في السلام, لأنه أولا, ذكر أن الطائفة تقوم معه, فأخبر عن مصاحبتهم له. ثم أضاف الفعل بعد, إليهم دون الرسول, فدل ذلك على ما ذكرناه. وفي قوله " وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ " دليل على أن الطائفة الأولى قد صلوا. وأن جميع صلاة الطائفة الثانية تكون مع الإمام حقيقة, في ركعتهم الأولى, وحكما في ركعتهم الأخيرة. فيستلزم ذلك, انتظار الإمام إياهم, حتى يكملوا صلاتهم. ثم يسلم بهم, وهذا ظاهر للمتأمل.
" فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا "
أي: فإذا فرغتم من صلاتكم, صلاة الخوف وغيرها, فاذكروا الله في جميع أحوالكم وهيئاتكم. ولكن خصت صلاة الخوف بذلك لفوائد. منها: أن القلب صلاحه وفلاحه, وسعادته, بالإنابة إلى الله تعالى, في المحبة, وامتلاء القلب من ذكره, والثناء عليه. وأعظم ما يحصل به هذا المقصود, الصلاة, التي حقيقتها: أنها صلة بين العبد وبين ربه. ومنها: أن فيها من حقائق الإيمان, ومعارف الإيقان, ما أوجب أن يفرضها الله على عباده كل يوم وليلة. ومن المعلوم أن صلاة الخوف, لا تحصل فيها هذه المقاصد الحميدة, بسبب اشتغال القلب, والبدن, والخوف, فأمر بجبرها بالذكر بعدها. ومنها: أن الخوف, يوجب قلق القلب وخوفه, وهو مظنة لضعفه. وإذا ضعف القلب, ضعف البدن عن مقاومة العدو. والذكر لله والإكثار منه من أعظم مقويات القلب. ومنها: أن الذكر لله تعالى - مع الصبر والثبات - سبب للفلاح والظفر بالأعداء. كما قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " . فأمر بالإكثار منه في هذه الحال, إلى غير ذلك من الحِكَم. وقوله " فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ " أي: إذا أمنتم من الخوف, واطمأنت قلوبكم وأبدانكم, فأقيموا صلاتكم على الوجه الأكمل, ظاهرا وباطنا, بأركانها وشروطها, وخشوعها, وسائر مكملاتها. " إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا " أي: مفروضا في وقته. فدل ذلك على فرضيتها, وأن لها وقتا, لا تصح إلا به, وهو هذه الأوقات, التي قد تقررت عند المسلمين, صغيرهم, وكبيرهم, عالمهم وجاهلهم, وأخذوا ذلك عن نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم بقوله: " صلوا كما رأيتموني أصلي " .
ودل قوله " عَلَى الْمُؤْمِنِينَ " على أن الصلاة ميزان الإيمان, وعلى حسب إيمان العبد, تكون صلاته, وتتم وتكمل. ويدل ذلك, على أن الكفار - وإن كانوا ملتزمين لأحكام المسلمين كأهل الذمة - أنهم لا يخاطبون بفروع الدين كالصلاة, ولا يؤمرون بها, بل ولا تصح منهم, ما داموا على كفرهم, وإن كانوا يعاقبون عليها, وعلى سائر الأحكام, في الآخرة.
" ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليما حكيما "
أي: لا تضعفوا ولا تكسلوا, في ابتغاء عدوكم من الكفار, أي: في جهادهم, والمرابطة على ذلك فإن وَهَن القلب, مستدع لوَهَن البدن, وذلك يضعف عن مقاومة الأعداء. بل كونوا أقوياء, نشيطين في قتالهم. ثم ذكر ما يقوي قلوب المؤمنين, فذكر شيئين. الأول: أن ما يصيبكم من الألم, والتعب, والجراح ونحو ذلك, فإنه يصيب أعداءكم. فليس من المروءة الإنسانية, والشهامة الإسلامية أن تكونوا أضعف منهم, وأنتم وهم, وقد تساويتم فيما يوجب ذلك. لأن العادة الجارية, أن لا يضعف, إلا من توالت عليه الآلام وانتصر عليه الأعداء على الدوام. لا من يدال له مرة, ويدال عليه أخرى. الأمر الثاني: أنكم ترجون من الله ما لا يرجون. فترجون الفوز بثوابه, والنجاة من عقابه. بل خواص المؤمنين, لهم مقاصد عالية, وآمال رفيعة, من نصر دين الله, وإقامة شرعه, واتساع دائرة الإسلام, وهداية الضالين, وقمع أعداء الدين. فهذه الأمور, توجب للمؤمن المصدق, زيادة القوة, وتضاعف النشاط, والشجاعة التامة. لأن من يقاتل ويصبر على نيل عزه الدنيوي, إن ناله, ليس كمن يقاتل لنيل السعادة الدنيوية والأخروية, والفوز برضوان الله وجنته. فسبحان من فاوت بين العباد, وفرق بينهم بعلمه وحكمته. ولهذا قال: " وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " كامل العلم, كامل الحكمة.
" إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله ولا تكن للخائنين خصيما "
يخبر تعالى, أنه أنزل على عبده ورسوله, الكتاب بالحق, أي: محفوظا في إنزاله من الشياطين, أن يتطرق إليه منهم باطل. بل نزل بالحق, ومشتملا أيضا على الحق. فأخباره صدق, وأوامره ونواهيه, عدل " وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا " . وأخبر أنه أنزله ليحكم بين الناس. وفي الآية الأخرى " وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ " . فيحتمل أن هذه الآية, في الحكم بين الناس, في مسائل النزاع والاختلاف. وتلك في تبيين جميع الدين, وأصوله, وفروعه. ويحتمل أن الآيتين كلتيهما, معناهما واحد. فيكون الحكم بين الناس هنا يشمل الحكم بينهم في الدماء والأعراض والأموال وسائر الحقوق وفي العقائد, وفي جميع مسائل الأحكام. وقوله " بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ " أي: لا بهواك, بل بما علَّمك الله وألهمك. كقوله تعالى " وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى " . وفي هذا دليل على عصمته صلى الله عليه وسلم, فيما يُبَلِّغ عن الله من جميع الأحكام وغيرها. وأنه يشترط في الحكم, العلم والعدل لقوله " بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ " ولم يقل: بما رأيت. ورتب أيضا, الحكم بين الناس على معرفة الكتاب. ولما أمر الله بالحكم بين الناس المتضمن للعدل والقسط, نهاه عن الجور والظلم, الذي هو ضد العدل فقال: " وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا " أي: لا تخاصم عن من عرفت خيانته, من مدع ما ليس له, أو منكر حقا عليه, سواء علم ذلك, أو ظنه. ففي هذا, دليل على تحريم الخصومة في باطل, والنيابة عن المبطل, في الخصومات الدينية, والحقوق الدنيوية. ويدل مفهوم الآية على جواز الدخول في نيابة الخصومة لمن لم يعرف منه ظلم.
" واستغفر الله إن الله كان غفورا رحيما "
" وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ " مما صدر منك, إن صدر. " إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا " أي: يغفر الذنب العظيم, لمن استغفره, وتاب إليه وأناب, ويوفقه للعمل الصالح بعد ذلك, الموجِب لثوابه, وزوال عقابه
" ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما "
" وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ " . " الاختيان " و " الخيانة " بمعنى الجناية, والظلم, والإثم, وهذا يشمل النهي عن المجادلة, عن من أذنب وتوجه عليه عقوبة, من حد أو تعزير, فإنه لا يجادل عنه, بدفع ما صدر منه من الخيانة, أو بدفع ما ترتب على ذلك من العقوبة الشرعية. " إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا " أي: كثير الخيانة والإثم. وإذا انتفى الحب, ثبت ضده, وهو البُغْض, وهذا كالتعليل, للنهي المتقدم.
" يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيتون ما لا يرضى من القول وكان الله بما يعملون محيطا "
ثم ذكر عن هؤلاء الخائنين أنهم " يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ " . وهذا من ضعف الإيمان, ونقصان اليقين, أن تكون مخافة الخلق عندهم, أعظم من مخافة الله فيحرصون بالطرق المباحة والمحرمة, على عدم الفضيحة عند الناس, وهم - مع ذلك - قد بارزوا الله بالعظائم, ولم يبالوه بنظره واطلاعه عليهم. وهو معهم بالعلم, في جميع أحوالهم, خصوصا في حال تبييتهم ما لا يرضيه من القول, من تبرئة الجاني, ورمي البريء بالجناية, والسعي في ذلك للرسول صلى الله عليه وسلم, ليفعل ما بيتوه. فقد جمعوا بين عدة جنايات, ولم يراقبوا رب الأرض والسماوات, المطلع على سرائرهم وضمائرهم, ولهذا توعدهم تعالى بقوله: " وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا " أي: قد أحاط بذلك علما. ومع هذا, لم يعاجلهم بالعقوبة, بل استأنى بهم, وعرض عليهم التوبة وحذرهم من الإصرار على ذنبهم, الموجب للعقوبة البليغة.
" ها أنتم هؤلاء جادلتم عنهم في الحياة الدنيا فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة أم من يكون عليهم وكيلا "
" هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا " . أي: هبكم جادلتم عنهم في هذه الحياة الدنيا, ودفع عنهم جدالكم بعض ما يحذرون من العار والفضيحة, عند الخَلْق. فماذا يغني عنهم وينفعهم؟ ومن يجادل الله عنهم يوم القيامة حين تتوجه عليهم الحجة, وتشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون؟ " يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ " . فمن يجادل عنهم, من يعلم السر وأخفى, ومن أقام عليهم من الشهود ما لا يمكن معه الإنكار؟. وفي هذه الآية, الإرشاد إلى المقابلة, بين ما يتوهم من مصالح الدنيا المترتبة على ترك أوامر الله, أو فعل مناهيه. وبين ما يفوت من ثواب الآخرة, أو يحصل من عقوباتها. فيقول من أمرته نفسه بترك أمر الله: ها أنت, تركت أمره كسلا وتفريطا, فما النفع الذي انتفعت به؟ وماذا فاتك من ثواب الآخرة؟ وماذا ترتب على هذا الترك من الشقاء والحرمان والخيبة والخسران؟ وكذلك إذا دعته نفسه إلى ما تشتهيه من الشهوات المحرمة, قال لها: هبك فعلت ما اشتهيت, فإن لذته تنقضي, ويعقبها من الهموم, والغموم, والحسرات, وفوات الثواب, وحصول العقاب - ما بعضه يكفي العاقل في الإحجام عنها. وهذا من أعظم ما ينفع العبد تدبره, وهو خاصة, العقل الحقيقي. بخلاف من يدعي العقل, وليس كذلك. فإنه - بجهله وظلمه - يؤثر اللذة الحاضرة, والراحة الراهنة, ولو ترتب عليها ما ترتب. والله المستعان.
" ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما "
ثم قال تعالى: " وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا " . أي: من تجرأ على المعاصي, واقتحم على الإثم, ثم استغفر الله استغفارا تاما, يستلزم الإقرار بالذنب, والندم عليه, والإقلاع, والعزم على أن لا يعود. فهذا قد وعده من لا يخلف الميعاد, بالمغفرة والرحمة. فيغفر له ما صدر منه من الذنب, ويزيل عنه, ما ترتب عليه من النقص والعيب, ويعيد إليه, ما تقدم من الأعمال الصالحة, ويوفقه فيما يستقبله من عمره, ولا يجعل ذنبه حائلا عن توفيقه, لأنه قد غفره, وإذا غفره, غفر ما يترتب عليه. واعلم أن عمل السوء عند الإطلاق, يشمل سائر المعاصي, الصغيرة, والكبيرة. وسمي " سوءا " لكونه يسوء عامله بعقوبته, ولكونه - في نفسه - سيئا, غير حسن. وكذلك ظلم النفس عند الإطلاق, يشمل ظلمها بالشرك, فما دونه. ولكن عند اقتران أحدهما بالآخر, قد يفسر كل واحد منهما, بما يناسبه. فيفسر عمل السوء هنا, بالظلم الذي يسوء الناس, وهو ظلمهم, في دمائهم, وأموالهم وأعراضهم. ويفسر ظلم النفس, بالظلم والمعاصي, التي بين الله وبين عبده. وسمي ظلم النفس " ظلما " لأن نفس العبد, ليست ملكا له, يتصرف فيها بما يشاء. وإنما هي, ملك لله تعالى, قد جعلها أمانة عند العبد وأمره أن يقيمها على طريق العدل, بإلزامها الصراط المستقيم, علما وعملا, فيسعى في تعليمها ما أمر به, ويسعى في العمل بما يجب. فسعيه في غير هذا الطريق, ظلم لنفسه, وخيانة, وعدول بها عن العدل, الذي ضده, الجور والظلم.
" ومن يكسب إثما فإنما يكسبه على نفسه وكان الله عليما حكيما "
ثم قال: " وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ " وهذا يشمل, كل ما يؤثم, من صغير وكبير. فمن كسب سيئة, فإن عقوبتها الدنيوية والأخروية, على نفسه, لا تتعداها إلى غيرها, كما قال تعالى: " وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى " . لكن إذا ظهرت السيئات, فلم تنكر, عمت عقوبتها, وشمل إثمها, فلا تخرج أيضا, عن حكم هذه الآية الكريمة, لأن من ترك الإنكار الواجب, فقد كسب سيئة. وفي هذا, بيان عدل الله وحكمته, أنه لا يعاقب أحدا بذنب أحد, ولا يعاقب أحدا, أكثر من العقوبة الناشئة عن ذنبه, ولهذا قال: " وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " أي: له العلم الكامل, والحكمة التامة. ومن علمه وحكمته, أنه يعلم الذنب, ومن صدر منه, والسبب الداعي لفعله, والعقوبة المترتبة على فعله. ويعلم حالة المذنب, أنه إن صدر منه الذنب, بغلبة دواعي نفسه الأمارة بالسوء, مع إنابته إلى ربه, في كثير من أوقاته, أنه سيغفر له, ويوفقه للتوبة. وإن صدر بتجرؤه على المحارم, استخفافا بنظر ربه, وتهاونا بعقابه, فإن هذا بعيد من المغفرة, بعيد من التوفيق للتوبة.
" ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا فقد احتمل بهتانا وإثما مبينا "
ثم قال " وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً " أي: ذنبا كبيرا " أَوْ إِثْمًا " ما دون ذلك. " ثُمَّ يَرْمِ بِهِ " أي: يتهم بذنبه " بَرِيئًا " من ذلك الذنب, وإن كان مذنبا. " فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا " أي: فقد حمل فوق ظهره, بهتا للبريء وإثما ظاهرا بينا. وهذا يدل على أن ذلك من كبائر الذنوب, وموبقاتها. فإنه قد جمع عدة مفاسد: كسب الخطيئة, والإثم. ثم رمي من لم يفعلها بفعلها. ثم الكذب الشنيع, بتبرئة نفسه, واتهام البريء. ثم ما يترتب على ذلك, من العقوبة الدنيوية, تندفع عمن وجبت عليه, وتقام على من لا يستحقها. ثم ما يترتب على ذلك أيضا, من كلام الناس في البريء, إلى غير ذلك من المفاسد, التي نسأل الله العافية منها, ومن كل شر.
" ولولا فضل الله عليك ورحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك وما يضلون إلا أنفسهم وما يضرونك من شيء وأنزل الله عليك الكتاب والحكمة وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيما "
ثم ذكر منته على رسوله بحفظه وعصمته ممن أراد أن يضله فقال: " وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ " . وذلك أن هذه الآيات الكريمات, قد ذكر المفسرون, أن سبب نزولها, أن أهل بيت, سرقوا في المدينة. فلما اطلع على سرقتهم, خافوا الفضيحة, وأخذوا سرقتهم, فرموها ببيت من هو بريء من ذلك. واستعان السارق بقومه, أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم, ويطلبوا منه أن يبرئ صاحبهم, على رءوس الناس. وقالوا: إنه لم يسرق, وإنما الذي سرق, من وجدت السرقة ببيته, وهو البريء. فهَمَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم, أن يبرئ صاحبهم. فأنزل الله هذه الآيات, تذكيرا, وتبيينا لتلك الواقعة, وتحذيرا للرسول صلى الله عليه وسلم, من المخاصمة عن الخائنين, فإن المخاصمة عن المبطل, من الضلال, فإن الضلال نوعان: ضلال في العلم, وهو الجهل بالحق, وضلال في العمل, وهو: العمل بغير ما يجب. فحفظ الله رسوله, عن هذا النوع من الضلال, كما حفظه عن الضلال في الأعمال. وأخبر أن كيدهم ومكرهم, يعود على أنفسهم, كحالة كل ماكر, فقال: " وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ " لكون ذلك المكر, وذلك التحيل, لم يحصل لهم, فيه مقصودهم, ولم يحصل لهم إلا الخيبة والحرمان, والإثم, والخسران. وهذه نعمة كبيرة, على رسوله صلى الله عليه وسلم, تتضمن النعمة بالعمل, وهو: التوفيق لفعل ما يحب, والعصمة له عن كل محرم. ثم ذكر نعمته عليه بالعلم فقال: " وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ " . أي: أنزل عليك هذا القرآن العظيم, والذكر الحكيم, الذي فيه تبيان كل شيء, وعلم الأولين والآخِرين. والحكمة: إما السنة, التي قد قال فيها بعض السلف: إن السنة تنزل عليه, كما ينزل القرآن. وإما: معرفة أسرار الشريعة الزائدة, على معرفة أحكامها, وتنزيل الأشياء منازلها, وترتيب كل شيء بحسبه. " وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ " وهذا يشمل جميع ما علمه الله تعالى. فإنه صلى الله عليه وسلم, كما وصفه الله قبل النبوة بقوله " مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ " , " وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى " . ثم لم يزل يوحي الله إليه, ويعلمه, ويكمله, حتى ارتقى مقاما من العلم, يتعذر وصوله على الأولين والآخرين. فكان أعلم الخلق على الإطلاق, وأجمعهم لصفات الكمال, وأكملهم فيها. ولهذا قال " وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا " ففضله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم, أعظم من فضله على كل الخلق. وأجناس الفضل التي قد فضله الله به, لا يمكن استقصاؤها ولا يتيسر إحصاؤها.
" لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجرا عظيما "
أي: لا خير في كثير, مما يتناجى به الناس ويتخاطبون. وإذا لم يكن فيه خير, فإما لا فائدة فيه, كفضول الكلام المباح. وإما شر, ومضرة محضة, كالكلام المحرم بجميع أنواعه. ثم استثنى تعالى فقال: " إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ " من مال, أو علم, أو أي نفع كان. بل لعله, يدخل فيه العبادات القاصرة, كالتسبيح, والتحميد, ونحوه. كما قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن بكل تسبيحة صدقة, وكل تكبيرة صدقة, وكل تهليلة صدقة, وأمر بالمعروف صدقة, ونهي عن المنكر صدقة, وفي بضع أحدكم صدقة " الحديث. " أَوْ مَعْرُوفٍ " وهو الإحسان والطاعة, وكل ما عرف في الشرع والعقل حسنه. وإذا أطلق الأمر بالمعروف, من غير أن يقرن بالنهي عن المنكر, دخل فيه النهي عن المنكر. وذلك لأن ترك المنهيات, من المعروف. وأيضا لا يتم فعل الخير, إلا بترك الشر. وأما عند الاقتران, فيفسر المعروف, بفعل المأمور, والمنكر, بترك المنهي. " أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ " والإصلاح, لا يكون إلا بين متنازعين متخاصمين. والنزاع, والخصام, والتغاضب, يوجب من الشر والفرقة, ما لا يمكن حصره. فلذلك حث الشارع على الإصلاح بين الناس, في الدماء, والأموال والأعراض. بل وفي الأديان, كلها قال تعالى: " وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا " . وقال تعالى: " وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ " الآية. وقال تعالى: " وَالصُّلْحُ خَيْرٌ " . والساعي في الإصلاح بين الناس, أفضل من القانت بالصلاة, والصيام, والصدقة. والمصلح, لا بد أن يصلح الله سعيه وعمله. كما أن الساعي في الإفساد, لا يصلح الله عمله, ولا يتم له مقصوده كما قال تعالى: " إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ " .
فهذه الأشياء, حيثما فعلت, فهي خير, كما دل على ذلك, الاستثناء. ولكن كمال الأجر وتمامه, بحسب النية والإخلاص, ولهذا قال: " وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا " . فلهذا ينبغي للعبد, أن يقصد وجه الله تعالى, ويخلص العمل لله, في كل وقت, وفي كل جزء من أجزاء الخير, ليحصل له بذلك, الأجر العظيم, وليتعود الإخلاص, فيكون من المخلصين, وليتم له الأجر, سواء تم مقصوده أم لا, لأن النية حصلت, واقترن بها, ما يمكن من العمل.
" ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا "
أي: ومن يخالف الرسول صلى الله عليه وسلم, ويعانده فيما جاء به " مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى " بالدلائل القرآنية, والبراهين النبوية. " وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ " وسبيلهم هو: طريقهم في عقائدهم وأعمالهم. " نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى " , أي: نتركه وما اختاره لنفسه, ونخذله, فلا نوفقه للخير, لكونه رأى الحق وعلمه وتركه. فجزاؤه من الله عدلا, أن يبقيه في ضلاله حائرا, ويزداد ضلالا إلى ضلاله. كما قال تعالى " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ " وقال تعالى " وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " . ويدل مفهومها, على أن من لم يشاقق الرسول, ويتبع سبيل المؤمنين, بأن كان قصده وجه الله, واتباع رسوله, ولزوم جماعة المسلمين, ثم صدر منه, من الذنوب أو الهّم بها, ما هو من مقتضيات النفوس, وغلبات الطباع, فإن الله لا يوليه نفسه وشيطانه, بل يتداركه بلطفه, ويمن عليه, بحفظه, ويعصمه من السوء كما قال تعالى عن يوسف عليه السلام: " كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ " . أي: بسبب إخلاصه, صرفنا عنه السوء, وكذلك كل مخلص, كما يدل عليه, عموم التعليل. وقوله " وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ " أي: نعذبه فيها عذابا عظيما. " وَسَاءَتْ مَصِيرًا " أي: مرجعا له ومآلا. وهذا الوعيد, المترتب على الشقاق, ومخالفة المؤمنين, مراتب, لا يحصيها إلا الله, بحسب حالة الذنب, صغرا وكبرا. فمنه ما يخلد في النار, ويوجب جميع الخذلان. ومنه, ما هو دون ذلك, فلعل الآية الثانية, كالتفصيل لهذا المطلق.
" إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا "
وهو: أن الشرك, لا يغفره الله تعالى, لتضمنه القدح في رب العالمين, ووحدانيته, وتسوية المخلوق, الذي لا يملك لنفسه ضرا ولا نفعا, بمن هو مالك النفع والضر, الذي ما من نعمة إلا منه, ولا يدفع النقم إلا هو, الذي له الكمال المطلق من جميع الوجوه, والغنى التام بجميع وجوه الاعتبارات. فمن أعظم الظلم, وأبعد الضلال, عدم إخلاص العباده لمن هذا شأنه وعظمته, وصرف شيء منها للمخلوق, الذي ليس له من صفات الكمال شيء, ولا له من صفات الغنى شيء, بل ليس له إلا العدم. عدم الوجود, وعدم الكمال, وعدم الغنى من جميع الوجوه. وأما ما دون الشرك من الذنوب والمعاصي, فهو تحت المشيئة. إن شاء الله غفره برحمته وحكمته. وإن شاء عذب عليه, وعاقب بعدله وحكمته. وقد استدل بهذه الآية الكريمة, على أن إجماع هذه الأمة, حجة, وأنها معصومة من الخطإ. ووجه ذلك: أن الله توعد من خالف سبيل المؤمنين, بالخذلان والنار. وسبيل المؤمنين مفرد مضاف, يشمل سائر ما المؤمنون عليه, من العقائد والأعمال. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء, أو استحبابه, أو تحريمه أو كراهته, أو إباحته - فهذا سبيلهم. فمن خالفهم في شيء من ذلك, بعد انعقاد إجماعهم عليه, فقد اتبع غير سبيلهم. ويدل على ذلك قوله تعالى: " كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ " . ووجه الدلالة منها, أن الله تعالى, أخبر أن المؤمنين من هذه الأمة, لا يأمرون إلا بالمعروف. فإذا اتفقوا على إيجاب شيء, أو استحبابه, فهو مما أمروا به. فيتعين - بنص الآية - أن يكون معروفا, ولا شيء بعد المعروف, غير المنكر. وكذلك إذا اتفقوا على النهي عن شيء, فهو مما نهوا عنه, فلا يكون إلا منكرا. ومثل ذلك, قوله تعالى " وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ " . فأخبر تعالى, أن هذه الأمة, جعلها الله وسطا أي: عدلا خيارا, ليكونوا شهداء على الناس, أي: في كل شيء. فإذا شهدوا على حكم, بأن الله أمر به, أو نهى عنه, أو أباحه, فإن شهادتهم معصومة, لكونهم عالمين بما شهدوا به عادلين في شهادتهم. فلو كان الأمر بخلاف ذلك, لم يكونوا عادلين في شهادتهم, ولا عالمين بها. ومثل ذلك قوله تعالى " فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ " . يفهم منها, أن ما لم يتنازعوا فيه, بل اتفقوا عليه, أنهم غير مأمورين برده إلى الكتاب والسنة. وذلك لا يكون إلا موافقا للكتاب والسنة, فلا يكون مخالفا. فهذه الأدلة ونحوها, تفيد القطع, أن إجماع هذه الأمة حجة قاطعة. ولهذا بين الله قبح ضلال المشركين بقوله: " إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ " إلى " مَحِيصًا " .
" إن يدعون من دونه إلا إناثا وإن يدعون إلا شيطانا مريدا "
أي: ما يدعو هؤلاء المشركون من دون الله إلا إناثا, أي: أوثانا وأصناما, مسميات بأسماء الإناث, كـ " العزى " و " مناة " ونحوهما. ومن المعلوم, أن الاسم دال على المسمى. فإذا كانت أسماؤها, أسماء مؤنثة ناقصة, دل ذلك, على نقص المسميات بتلك الأسماء, وفقدها لصفات الكمال. كما أخبر الله تعالى, في غير موضع من كتابه, أنها لا تخلق, ولا ترزق, ولا تدفع عن عابديها, بل ولا عن نفسها; نفعا ولا ضرا, ولا تنصر أنفسها ممن يريدها بسوء, وليس لها أسماع, ولا أبصار, ولا أفئدة. فكيف يعبد, من هذا وصفه, ويترك الإخلاص لمن له الأسماء الحسنى, والصفات العليا والحمد والكمال, والمجد, والجلال, والعز, والجمال, والرحمة, والبر, والإحسان, والانفراد بالخلق والتدبير, والحكمة العظيمة في الأمر والتقدير؟!! هل هذا إلا من أقبح القبيح, الدال على نقص صاحبه, وبلوغه من الخسة والدناءة, أدنى ما يتصوره متصور, أو يصفه واصف؟!!. ومع هذا فعبادتهم, إنما صورتها فقط, لهذه الأوثان الناقصة. وبالحقيقة, ما عبدوا غير الشيطان, الذي هو عدوهم, الذي يريد إهلاكهم, ويسعى في ذلك بكل ما يقدر عليه, الذي هو في غاية البعد من الله,
" لعنه الله وقال لأتخذن من عبادك نصيبا مفروضا "
لعنه الله وأبعده عن رحمته. فكما أبعده الله من رحمته, يسعى في إبعاد العباد عن رحمة الله. " إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ " . ولهذا أخبر الله عن سعيه, في إغواء العباد, وتزيين الشر لهم والفساد, وأنه قال لربه مقسما. " لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا " أي: مقدرا. علم اللعين, أنه لا يقدر على إغواء جميع عباد الله, وأن عباد الله المخلصين, ليس له عليهم سلطان. وإنما سلطانه, على من تولاه, وآثر طاعته على طاعة مولاه. وأقسم في موضع آخر ليغوينهم فقال: " لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ " . فهذا الذي ظنه الخبيث وجزم به, أخبر الله تعالى بوقوعه لقوله: " وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " . وهذا النصيب المفروض, الذي أقسم ليتخذنه منهم, ذكر ما يريده | |
| | | مهندس رمضان 2 ADMIN
نـــوعى : الزبون دة سجل يوم : 18/05/2009 العمر : 43 مساهمات الزبون دة : 2280 نقاط النشاط : 7541 التقييم اغانى الزمن الجميل : 306
| موضوع: رد: تفسير السعدي - سورة النساء الأحد يناير 24, 2010 8:26 pm | |
| " يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا "
ثم قال " يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ " أي: يعد الشيطان من يسعى في إضلالهم. والوعد, يشمل حتى الوعيد كما قال تعالى " الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ " . فإنه يعدهم - إذا أنفقوا في سبيل الله, افتقروا. ويخوفهم إذا جاهدوا, بالقتل وغيره كما قال تعالى: " إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ " الآية. ويخوفهم عند إيثار مرضاة الله, بكل ما يمكن, وما لا يمكن, مما يدخله في عقولهم, حتى يكسلوا عن فعل الخير. وكذلك يمنيهم الأماني الباطلة, التي هي - عند التحقيق - كالسراب الذي لا حقيقة له.
ولهذا قال " وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا "
" أولئك مأواهم جهنم ولا يجدون عنها محيصا "
" أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ " أي: من انقاد للشيطان, وأعرض عن ربه, وصار من أتباع إبليس وحزبه, مستقرهم النار. " وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا " أي: مخلصا ولا ملجأ, بل هم خالدون فيها أبدا الآباد.
" والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا "
ولما بين مآل الأشقياء, أولياء الشيطان, ذكر مآل السعداء أوليائه فقال: والذين آمنوا: الآية. أي: " آمَنُوا " بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, والقَدَر, خيره وشره, على الوجه الذي أمروا به, علما, وتصديقا, وإقرارا. " وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ " الناشئة عن الإيمان. وهذا يشمل سائر المأمورات, من واجب, ومستحب, الذي على القلب, والذي على اللسان, والذي على بقية الجوارح. كل له, من الثواب المرتب على ذلك, بحسب حاله ومقامه, وتكميله للإيمان والعمل الصالح. ويقويه, ما رتب على ذلك, بحسب ما أخل به من الإيمان والعمل. وذلك بحسب ما علم من حكمة الله ورحمته. وكذلك وعده الصادق, الذي يعرف من تتبع كتاب الله وسنة رسوله. ولهذا ذكر الثواب المرتب على ذلك بقوله: " سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ " فيها ما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر, من أنواع المآكل, والمشارب اللذيذة, والمناظر العجيبة, والأزواج الحسنة, والقصور, والغرف المزخرفة والأشجار المتدلية, والفواكه المستغربة, والأصوات الشجية, والنعم السابغة وتزاور الإخوان, وتذكرهم ما كان منهم, في رياض الجنات. وأعلى من ذلك وأجلّ, رضوان الله عليهم, وتمتع الأرواح بقربه, والعيون برؤيته, والأسماع بخطابه, الذي ينسيهم كل نعيم وسرور. ولولا الثبات من الله لهم, لطاروا, وماتوا من الفرح والحبور. فلله ما أحلى ذلك النعيم, وما أعلى ما أنالهم الرب الكريم, وما حصل لهم, من كل خير وبهجة, لا يصفه الواصفون. وتمام ذلك وكماله, الخلود الدائم, في تلك المنازل العاليات, ولهذا قال: " خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا " . فصدق الله العظيم, الذي بلغ قوله وحديثه في الصدق, أعلى ما يكون. ولهذا لما كان كلامه صدقا, وخبره صدقا - كان ما يدل عليه, مطابقة, وتضمنا, وملازمة, كل ذلك مراد من كلامه. وكذلك كلام رسوله صلى الله عليه وسلم, لكونه لا يخبر إلا بأمره ولا ينطق إلا عن وحيه.
" ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليا ولا نصيرا "
أي: " لَيْسَ " الأمر والنجاة والتزكية " بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ " . والأماني: أحاديث النفس المجردة عن العمل, المقترن بها, دعوى مجردة, لو عورضت بمثلها, لكانت من جنسها. وهذا عامّ في كل أمر. فكيف بأمر الإيمان, والسعادة الأبدية؟!. فإن أماني أهل الكتاب, قد أخبر الله بها, أنهم قالوا: " لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ " وغيرهم ممن ليس ينتسب لكتاب, ولا رسول, من باب أولى وأحرى. وكذلك أدخل الله في ذلك من ينتسب إلى الإسلام, لكمال العدل والإنصاف. فإن مجرد الانتساب إلى أي دين كان, لا يفيد شيئا, إن لم يأت الإنسان ببرهان, على صحة دعواه. فالأعمال تصدق الدعوى, أو تكذبها, ولهذا قال تعالى: " مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ " وهذا شامل لجميع العاملين. لأن السوء شامل, لأي ذنب كان, من صغائر الذنوب, وكبائرها. وشامل أيضا, لكل جزاء, قليل, أو كثير, دنيوي, أو أخروي. والناس في هذا المقام درجات, لا يعلمها إلا الله, فمستقل ومستكثر. فمن كان عمله سوءا, وذلك لا يكون إلا كافرا. فإذا مات من دون توبة, جوزي بالخلود في العذاب الأليم. ومن كان عمله صالحا, وهو مستقيم في غالب أحواله, وإنما يصدر منه أحيانا بعض الذنوب الصغار, فما يصيبه من الهم, والغم, والأذى, وبعض الآلام, في بدنه, أو قلبه, أو حبيبه, أو ماله, ونحو ذلك - فإنها مكفرات للذنوب, لطفا من الله بعباده. وبين هذين الحالين مراتب كثيرة. وهذا الجزاء, على عمل السوء العام, مخصوص في غير التائبين. فإن التائب من الذنب, كمن لا ذنب له, كما دلت على ذلك النصوص. وقوله " وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا " لإزالة بعض ما لعله يتوهم, أن من استحق المجازاة على عمله, قد يكون له ولي, أو ناصر, أو شافع, يدفع عنه ما استحقه. فأخبر تعالى, بانتفاء ذلك, فليس له ولي, يحصل له المطلوب, ولا نصير يدفع عنه المرهوب, إلا ربه ومليكه.
" ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا "
" وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ " دخل في ذلك, سائر الأعمال القلبية والبدنية. ودخل أيضا, كل عامل, من إنس, أو جن, صغير, أو كبير, ذكر, أو أنثى. ولهذا قال " مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ " وهذا شرط لجميع الأعمال لا تكون صالحة, ولا تقبل, ولا يترتب عليها الثواب, ولا يندفع بها العقاب, إلا بالإيمان. فالأعمال بدون الإيمان, كأغصان شجرة, قطع أصلها, وكبناء, بني على موج الماء. فالإيمان, هو الأصل والأساس, والقاعدة, التي يبنى عليها كل شيء. وهذا القيد, ينبغي التفطن له, في كل عمل مطلق, فإنه مقيد به. " فَأُولَئِكَ " أي: الذين جمعوا بين الإيمان والعمل الصالح. " يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ " المشتملة على ما تشتهي الأنفس, وتلذ الأعين. " وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا " أي: لا قليلا ولا كثيرا, مما عملوه من الخير. بل يجدونه كاملا موفرا, مضاعفا أضعافا كثيرة.
" ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا "
أي: لا أحد أحسن من دين, من جمع بين الإخلاص للمعبود, وهو: إسلام الوجه لله, الدال على استسلام القلب وتوجهه, وإنابته, وإخلاصه وتوجه الوجه وسائر الأعضاء لله. [وهو] مع هذا الإخلاص والاستسلام [محسن] أي: متبع لشريعة الله, التي أرسل الله بها رسله, وأنزل كتبه, وجعلها طريقا لخواص خلقه وأتباعهم. " وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ " أي: دينه وشرعه " حَنِيفًا " أي: مائلا عن الشرك إلى التوحيد, وعن التوجه للخلق, إلى الإقبال على الخالق. " وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا " والخلة أعلى أنواع المحبة. وهذه المرتبة, حصلت للخليلين, محمد, وإبراهيم, عليهما الصلاة والسلام. وأما المحبة من الله, فهي لعموم المؤمنين. وإنما اتخذ الله إبراهيم خليلا, لأنه وفَّى بما أُمر به, وقام بما ابْتُلي به. فجعله الله إماما للناس, واتخذه خليلا, ونوه بذكره في العالمين.
" ولله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله بكل شيء محيطا "
وهذه الآية الكريمة, فيها بيان إحاطة الله تعالى بجميع الأشياء. فأخبر أنه له " مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ " أي: الجميع ملكه وعبيده. فهم المملوكون, وهو المالك المتفرد بتدبيرهم. وقد أحاط علمه بجميع المعلومات, وبصره بجميع المبصرات, وسمعه بجميع المسموعات, ونفذت مشيئته وقدرته, بجميع الموجودات, ووسعت رحمته أهل الأرض والسماوات, وقهر بعزه وقهره, كل مخلوق, ودانت له جميع الأشياء.
" ويستفتونك في النساء قل الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن والمستضعفين من الولدان وأن تقوموا لليتامى بالقسط وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليما "
الاستفتاء: طلب السائل من المسئول, بيان الحكم الشرعي في ذلك المسئول عنه. فأخبر عن المؤمنين, أنهم يستفتون الرسول صلى الله عليه وسلم في حكم النساء المتعلق بهم فتولى الله هذه الفتوى بنفسه فقال: " قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ " فاعملوا على ما أفتاكم به, في جميع شئون النساء, من القيام بحقوقهن, وترك ظلمهن, عموما وخصوصا. وهذا أمر عام, يشمل جميع ما شرع الله, أمرا, ونهيا, في حق النساء, الزوجات وغيرهن, الصغار والكبار. ثم خص - بعد التعميم - الوصية بالضعاف, من اليتامى, والولدان, اهتماما بهم, وزجرا عن التفريط في حقوقهم فقال: " وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ " أي: ويفتيكم أيضا, بما يتلى عليكم في الكتاب, في شأن اليتامى من النساء. " اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ " .
وهذا إخبار عن الحالة الموجودة الواقعة في ذلك الوقت. فإن اليتيمة, إذا كانت تحت ولاية الرجل, بخسها حقها, وظلمها, إما بأكل مالها الذي لها, أو بعضه, أو منعها من التزوج, لينتفع بمالها, خوفا من استخراجه من يده, إنْ زوَّجها, أو يأخذ من صهرها, الذي تتزوج به, بشرط أو غيره, هذا إذا كان راغبا عنها.
أو يرغب فيها وهي ذات جمال ومال, ولا يقسط في مهرها, بل يعطيها دون ما تستحق. فكل هذا ظلم يدخل تحت هذا النص, ولهذا قال: " وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ " أي: ترغبون عن نكاحهن, أو في نكاحهن كما ذكرنا تمثيله. " وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ " أي: ويفتيكم في المستضعفين من الولدان الصغار, أن تعطوهم حقهم, من الميراث, وغيره, وأن لا تستولوا على أموالهم, على وجه الظلم والاستبداد. " وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ " أي: بالعدل التام. وهذا يشمل القيام عليهم, بإلزامهم أمر الله, وما أوجبه على عباده, فيكون الأولياء, مكلفين بذلك, يلزمونهم بما أوجبه الله. ويشمل القيام عليهم, في مصالحهم الدنيوية, بتنمية أموالهم, وطلب الأحظ لهم فيها, وأن لا يقربوها إلا بالتي هي أحسن. وكذلك لا يحابون فيهم, صديقا ولا غيره, في تزوج وغيره, على وجه الهضم لحقوقهم وهذا من رحمته تعالى بعباده, حيث حثّ غاية الحث, على القيام بمصالح من لا يقوم بمصلحة نفسه, لضعفه, وفقد أبيه. ثم حثّ على الإحسان عموما, فقال: " وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ " لليتامى ولغيرهم, سواء كان الخير متعديا, أو لازما. " فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا " أي: قد أحاط علمه بعمل العاملين للخير, قلة وكثرة, حسنا وضده, فيجازي كُلًّا بحسب عمله.
" ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورا رحيما "
يخبر تعالى: أن الأزواج لا يستطيعون, وليس في قدرتهم العدل التام بين النساء. وذلك, لأن العدل: يستلزم وجود المحبة على السواء, والداعي على السواء, والميل في القلب إليهن على السواء, ثم العمل بمقتضى ذلك. وهذا متعذر غير ممكن, فلذلك عفا الله, عما لا يستطاع ونهى عما هو ممكن بقوله: " فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ " أي: لا تميلوا ميلا كثيرا, بحيث لا تؤدون حقوقهن الواجبة. بل افعلوا ما هو باستطاعتكم في العدل. فالنفقة والكسوة, والقسم ونحوها, عليكم أن تعدلوا بينهن فيها. بخلاف الحب, والوطء ونحو ذلك, فإن الزوجة, إذا ترك زوجها, ما يجب لها, صارت كالمعلقة, التي لا زوج لها فتستريح وتستعد للتزوج, ولا ذات زوج, يقوم بحقوقها. " وَإِنْ تُصْلِحُوا " ما بينكم وبين زوجاتكم. وبإجبار أنفسكم على فعل ما لا تهواه النفس, احتسابا وقياما بحق الزوجة. وتصلحوا أيضا, فيما بينكم وبين الناس. وتصلحوا أيضا بين الناس, فيما تنازعوا فيه. وهذا يستلزم الحث على كل طريق يوصل إلى الصلح مطلقا كما تقدم. " وَتَتَّقُوا " الله بفعل المأمور وترك المحظور, والصبر على المقدور. " فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا " يغفر ما صدر منكم, من الذنوب, والتقصير في الحق الواجب, ويرحمكم كما عطفتم على أزواجكم ورحمتموهن.
" وإن يتفرقا يغن الله كلا من سعته وكان الله واسعا حكيما "
هذه الحالة الثالثة بين الزوجين, إذا تعذر الاتفاق, فإنه لا بأس بالفراق. فقال " وَإِنْ يَتَفَرَّقَا " أي: بطلاق, أو فسخ, أو خلع, أو غير ذلك. " يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا " من الزوجين " مِنْ سَعَتِهِ " أي: من فضله, وإحسانه الواسع الشامل.
فيغني الزوج بزوجة, خير له منها, ويغنيها من فضله. وإن انقطع نصيبها من زوجها, فإن رزقها على المتكفل بأرزاق جميع الخلق, القائم بمصالحهم, ولعل الله يرزقها, زوجا خيرا منه. " وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا " أي: كثير الفضل, واسع الرحمة. وصلت رحمته وإحسانه, إلى حيث وصل إليه علمه. وكان - مع ذلك - " حَكِيمًا " أي: يعطي بحكمته, ويمنع لحكمته. فإذا اقتضت حكمته منع بعض عباده, من إحسانه, بسبب في العبد, لا يستحق معه الإحسان - حرمه, عدلا وحكمة.
" ولله ما في السماوات وما في الأرض ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات وما في الأرض وكان الله غنيا حميدا "
يخبر تعالى, عن عموم ملكه العظيم الواسع, المستلزم تدبيره, بجميع أنواع التدبير, وتصرفه بأنواع التصريف, قدرا, وشرعا. فتصرفه الشرعي, أن وصى الأولين والآخرين, أهل الكتب السابقة واللاحقة - بالتقوى المتضمنة للأمر والنهي, وتشريع الأحكام, والمجازاة لمن قام بهذه الوصية, بالثواب, والمعاقبة لمن أهملها وضيعها, بأليم العذاب. ولهذا قال " وَإِنْ تَكْفُرُوا " بأن تتركوا تقوى الله, وتشركوا بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانا, فإنكم لا تضرون بذلك, إلا أنفسكم, ولا تضرون الله شيئا, ولا تنقصون ملكه. وله عبيد خير منكم, وأعظم, وأكثر, مطيعون له, خاضعون لأمره. ولهذا رتب على ذلك قوله " وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا " له الجود الكامل والإحسان الشامل الصادر من خزائن رحمته, التي لا ينقصها الإنفاق, ولا يغيضها نفقة, سحاء الليل والنهار. لو اجتمع أهل السماوات, وأهل الأرض, أولهم وآخرهم, فسأل كل واحد منهم, ما بلغت أمانيه, ما نقص من ملكه شيئا. ذلك بأنه جواد واجد ماجد, عطاؤه كلام, وعذابه كلام. إنما أمره لشيء إذا أراد شيئا, أن يقول له كن فيكون. ومن تمام غناه, أنه كامل الأوصاف. إذ لو كان فيه نقص بوجه من الوجوه, لكان فيه نوع افتقار إلى ذلك الكمال. بل, له كل صفة كمال, ومن تلك الصفة كمالها. ومن تمام غناه, أنه لم يتخذ صاحبة ولا ولدا, ولا شريكا في ملكه, ولا ظهيرا, ولا معاونا له على شيء, من تدابير ملكه. ومن كمال غناه, افتقار العالم العلوي والسفلي, في جميع أحوالهم وشئونهم إليه, وسؤالهم إياه, جميع حوائجهم الدقيقة والجليلة. فقام تعالى بتلك المطالب والأسئلة, وأغناهم وأقناهم, ومَنَّ عليهم بلطفه, وهداهم. وأما الحميد, فهو من أسماء الله تعالى الجليلة, الدال على أنه هو المستحق لكل حمد, ومحبة, وثناء وإكرام. وذلك لما اتصف به من صفات الحمد, التي هي صفة الجمال والجلال, ولما أنعم به على خلقه من النعم الجزال, فهو المحمود على كل حال. وما أحسن اقتران هذين الاسمين الكريمين " الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ " !! فإنه غني محمود, فله كمال من غناه, وكمال من حمده, وكمال من اقتران أحدهما بالآخر.
" ولله ما في السماوات وما في الأرض وكفى بالله وكيلا "
ثم كرر إحاطة ملكه, لما في السماوات والأرض, وأنه على كل شيء وكيل. أي: عالم قائم بتدبير الأشياء, على وجه الحكمة, فإن ذلك, من تمام الوكالة. فإن الوكالة تستلزم العلم بما هو وكيل عليه, والقوة, والقدرة على تنفيذه وتدبيره وكون ذلك التدبير على وجه الحكمة والمصلحة. فما نقص من ذلك, فهو لنقص بالوكيل. والله تعالى منزه عن كل نقص. أي: هو الغني الحميد الذي له القدرة الكاملة والمشيئة النافذة فيكم.
" إن يشأ يذهبكم أيها الناس ويأت بآخرين وكان الله على ذلك قديرا "
" إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ " غيركم, هم أطوع لله منكم وخير منكم. وفي هذا تهديد للناس على إقامتهم على كفرهم, وإعراضهم عن ربهم, فإن الله لا يعبأ بهم شيئا, إن لم يطيعوه, ولكنه يمهل, ويملي, ولا يهمل.
" من كان يريد ثواب الدنيا فعند الله ثواب الدنيا والآخرة وكان الله سميعا بصيرا "
ثم أخبر أن من كانت همته وإرادته دنية, غير متجاوزة ثواب الدنيا, وليس له إرادة في الآخرة, فإنه قد قصر سعيه ونظره, ومع ذلك فلا يحصل له من ثواب الدنيا, سوى ما كتب الله له منها. فإنه تعالى, هو المالك لكل شيء, الذي عنده ثواب الدنيا والآخرة, فليطلبا منه, وليستعن به عليهما. قإنه لا ينال ما عنده إلا بطاعته, ولا تدرك الأمور الدينية والدنيوية إلا بالاستعانة به, والافتقار إليه على الدوام. وله الحكمة تعالى, في توفيق من يوفقه, وخذلان من يخذله, وفي إعطائه ومنعه. ولهذا قال " وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا " .
ثم قال تعالى " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ " الآيتين.
" يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا "
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا " قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ " . والقوام, صيغة مبالغة, أي: كونوا في كل أحوالكم, قائمين بالقسط, الذي هو العدل في حقوق الله, وحقوق عباده. فالقسط في حقوق الله, أن لا يستعان بنعمه على معصيته, بل تصرف في طاعته. والقسط في حقوق الآدميين, أن تؤدي جميع الحقوق التي عليك, كما تطلب حقوقك. فتؤدي النفقات الواجبة, والديون, وتعامل الناس بما تحب أن يعاملوك به, من الأخلاق والمكافأة, وغير ذلك. ومن أعظم أنواع القسط, القسط في المقالات والقائلين. فلا يحكم لأحد القولين, أو أحد المتنازعين, لانتسابه أو ميله لأحدهما. بل يجعل وجهته, العدل بينهما. ومن القسط أداء الشهادة, التي عندك على أي وجه كان, حتى على الأحباب, بل على النفس, ولهذا قال: " شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا " . أي: فلا تراعوا الغني لغناه, ولا الفقير - بزعمكم - رحمة له. بل اشهدوا بالحق, على من كان. والقيام بالقسط, من أعظم الأمور, وأدلها على دين القائم به, وورعه ومقامه في الإسلام. فيتعين على من نصح نفسه, وأراد نجاتها أن يهتم له غاية الاهتمام, وأن يجعله نُصْب عينيه, ومحل إرادته, وأن يزيل عن نفسه, كل مانع وعائق يعوقه, عن إرادة القسط, أو العمل به. وأعظم عائق لذلك, اتباع الهوى, ولهذا, نبه تعالى, على إزالة هذا المانع بقوله: " فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا " أي: فلا تتبعوا شهوات أنفسكم المعارضة للحق. فإنكم - إن اتبعتموها, عدلتم عن الصواب, ولم توفقوا للعدل. فإن الهوى, إما أن يعمي بصيرة صاحبه, حتى يرى الحق باطلا, والباطل حقا. وإما أن يعرف الحق ويتركه, لأجل هواه. فمن سلم من هوى نفسه, وفق للحق, وهدي إلى الصراط المستقيم. ولما بين أن الواجب, القيام بالقسط, نهى عن ما يضاد ذلك, وهو لي اللسان عن الحق, في الشهادات وغيرها, وتحريف النطق, عن الصواب المقصود من كل وجه, أو من بعض الوجوه. ويدخل في ذلك, تحريف الشهادة, وعدم تكميلها, أو تأويل الشاهد على أمر آحر. فإن هذا, من اللي, لأنه الانحراف عن الحق. " أَوْ تُعْرِضُوا " أي: تتركوا القسط المنوط بكم, كترك الشاهد لشهادته وترك الحاكم لحكمه, الذي يجب عليه القيام به. " فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا " أي: محيطا بما فعلتم, يعلم أعمالكم, خفيها وجليها. وفي هذا تهديد شديد, للذي يلوي أو يعرض. ومن باب أولى, الذي يحكم بالباطل, أو يشهد بالزور, لأنه أعظم جرما. لأن الأولين, تركا الحق, وقام هو بالباطل.
" يا أيها الذين آمنوا آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر فقد ضل ضلالا بعيدا "
اعلم أن الأمر, إما أن يوجه إلى من لم يدخل في الشيء ولم يتصف بشيء منه. فهذا يكون أمرا له في الدخول فيه. وذلك كأمر من ليس بمؤمن بالإيمان كقوله تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ " الآية وإما أن يوجه إلى من دخل في الشيء, فهذا يكون أمره ليصحح ما وجد منه ويحصل ما لم يوجد. ومنه ما ذكره الله في هذه الآية, من أمر المؤمنين بالإيمان. فإن ذلك يقتضي أمرهم بما يصحح إيمانهم, من الإخلاص والصدق, وتجنب المفسدات والتوبة من جميع المنقصات. ويقتضي أيضا, الأمر بما لم يوجد من المؤمن, من علوم الإيمان وأعماله. فإنه كلما وصل إليه نص, وفهم معناه, واعتقده, فإن ذلك من المأمور به. وكذلك سائر الأعمال الظاهرة, والباطنة, كلها من الإيمان, كما دلت على ذلك النصوص الكثيرة, وأجمع عليه سلف الأمة. ثم الاستمرار على ذلك, والثبات عليه إلى الممات كما قال تعالى: " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ " . وأمر هنا بالإيمان به, وبرسله, وبالقرآن, وبالكتب المتقدمة. فهذا كله من الإيمان الواجب, الذي لا يكون العبد مؤمنا إلا به. إجمالا فيما لم يصل إليه تفصيله, وتفصيلا فيما علم من ذلك بالتفصيل. فمن آمن هذا الإيمان المأمور به, فقد اهتدى وأنجح. " وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا " . وأي ضلال أبعد من ضلال من ترك طريق الهدى المستقيم, وسلك الطريق الموصلة له إلى العذاب الأليم؟!! واعلم أن الكفر بشيء من هذه الأمور المذكورة, كالكفر بجميعها, لتلازمها, وامتناع وجود الإيمان ببعضها, دون بعض.
" إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم ازدادوا كفرا لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا "
ثم قال " إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا " الآية. أي: من تكرر منه الكفر بعد الإيمان, فاهتدى, ثم ضل وأبصر, ثم عمي وآمن, ثم كفر واستمر على كفره, وازداد منه, فإنه بعيد من التوفيق والهداية, لأقوم الطريق, وبعيد عن المغفرة, لكونه أتى بأعظم مانع يمنعه من حصولها. فإن كفره, يكون عقوبة وطبعا, لا يزول كما قال تعالى " فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ " . " وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ " . ودلت الآية: أنهم, إن لم يزدادوا كفرا, بل رجعوا إلى الإيمان, وتركوا ما هم عليه من الكفران, فإن الله يغفر لهم, ولو تكررت منهم الردة. وإذا كان هذا الحكم في الكفر, فغيره - من المعاصي التي دونه - من باب أولى أن العبد لو تكررت منه, ثم عاد إلى التوبة, عاد الله له بالمغفرة.
" بشر المنافقين بأن لهم عذابا أليما "
البشارة, تستعمل في الخير, وتستعمل في الشر بقيد, كما في هذه الآية. يقول تعالى " بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ " أي: الذين أظهروا الإسلام وأبطنوا الكفر, بأقبح بشارة وأسوإها, وهو العذاب الأليم.
" الذين يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين أيبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا "
وذلك بسبب محبتهم الكفار, وموالاتهم, ونصرتهم, وتركهم لموالاة المؤمنين. فأي شيء حملهم على ذلك؟ أيبتغون عندهم العزة؟. وهذا هو الواقع من أحوال المنافقين. ساء ظنهم بالله, وضعف يقينهم بنصر الله لعباده المؤمنين. ولحظوا بعض الأسباب, التي عند الكافرين, وقصر نظرهم عما وراء ذلك. فاتخذوا الكافرين أولياء, يتعززون بهم, ويستنصرون. والحال أن العزة لله جميعا, فإن نواصي العباد بيده, ومشيئته نافذة فيهم. وقد تكفل بنصر دينه وعباده المؤمنين, ولو تخلل ذلك بعض الامتحان لعباده المؤمنين. وإدالة العدو عليهم, إدالة غير مستمرة, فإن العاقبة والاستقرار, للمؤمنين. وفي هذه الآية, الترهيب العظيم من موالاة الكافرين; وترك موالاة المؤمنين, وأن ذلك, من صفات المنافقين. وأن الإيمان يقتضي محبة المؤمنين وموالاتهم, وبغض الكافرين وعداوتهم.
" وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم إن الله جامع المنافقين والكافرين في جهنم جميعا "
أي: وقد بيَّن الله لكم - فيما أنزل عليكم - حكمه الشرعي عند حضور مجالس الكفر والمعاصي " أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا " أي: يستهان بها. وذلك أن الواجب على كل مكلف في آيات الله, الإيمان بها, وتعظيمها وإجلالها, وتفخيمها. وهذا هو المقصود بإنزالها, وهو الذي خَلَق الله الخَلْق لأجله. فضد الإيمان, الكفر بها, وضد تعظيمها; الاستهزاء بها واحتقارها. ويدخل في ذلك, مجادلة الكفار والمنافقين لإبطال آيات الله ونصر كفرهم. وكذلك المبتدعون, على اختلاف أنواعهم. فإن احتجاجهم على باطلهم, يتضمن الاستهانة بآيات الله, لأنها لا تدل إلا على الحق, ولا تستلزم إلا صدقا. بل وكذلك يدخل فيه, حضور مجالس المعاصي والفسوق, التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه, وتقتحم حدوده التي حدها لعباده. ومنتهى هذا النهي عن القعود معهم " حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ " أي: غير الكفر بآيات الله والاستهزاء بها. " إِنَّكُمْ إِذًا " أي: إن قعدتم معهم في الحال المذكور " مَثَلُهُمْ " لأنكم رضيتم بكفرهم واستهزائهم, والراضي بالمعصية, كالفاعل لها. والحاصل أن من حضر مجلسا, يعصى الله به, فإنه يتعين عليه الإنكار عليهم, مع القدرة, أو القيام مع عدمها. " إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا " كما اجتمعوا على الكفر والموالاة. ولا ينفع المنافقين مجرد كونهم - في الظاهر - مع المؤمنين كما قال تعالى: " يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ " إلى آخر الآيات.
" الذين يتربصون بكم فإن كان لكم فتح من الله قالوا ألم نكن معكم وإن كان للكافرين نصيب قالوا ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من المؤمنين فالله يحكم بينكم يوم القيامة ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلا "
ثم ذكر تحقيق موالاة المنافقين للكافرين, ومعاداتهم للمؤمنين فقال: " الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ " أي: ينتظرون الحالة التي تصيرون عليها, وتنتهون إليها, من خير أو شر, قد أعدوا لكل حالة جوابا بحسب نفاقهم. " فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ " . فيظهرون أنهم مع المؤمنين, ظاهرا وباطنا, ليسلموا من القدح والطعن عليهم, وليشركوهم في الغنيمة والفيء, ولينتصروا بهم. " وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ " ولم يقل فتح, لأنه لا يحصل لهم فتح, يكون مبدأ لنصرتهم المستمرة. بل غاية ما يكون, أن يكون لهم نصيب غير مستقر, حكمة من الله. فإذا كان ذلك " قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ " أي: نستولي عليكم " وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ " . أي: يتصنعون عندهم, بكف أيديهم عنهم, مع القدرة, ومنعهم من المؤمنين, بجميع وجوه المنع في تنفيرهم, وتزهيدهم في القتال, ومظاهرة الأعداء عليهم, وغير ذلك, مما هو معروف منهم. " فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ " فيجازي المؤمنين, ظاهرا وباطنا, بالجنة, ويعذب المنافقين والمنافقات, والمشركين والمشركات. " وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا " أي: تسلطا واستيلاء عليهم. بل لا تزال طائفة من المؤمنين على الحق منصورة, لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم. ولا يزال الله, يحدث من أسباب النصر للمؤمنين, ودفع تسليط الكافرين, ما هو مشهود بالعيان. حتى إن بعض المسلمين, الذين تحكمهم الطوائف الكافرة, قد بقوا محترمين لا يتعرضون لأديانهم, ولا يكونون مستصغرين عندهم. بل لهم العز التام من الله, فلله الحمد, أولا وآخرا, وظاهرا وباطنا.
" إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم وإذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى يراءون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا "
يخبر تعالى عن المنافقين بما كانوا عليه, من قبيح الصفات, وشنائع السمات. وأن طريقتهم مخادعة الله تعالى, أي: بما أظهروه من الإيمان, وأبطنوه من الكفران. ظنوا أنه يروج على الله, ولا يعلمه, ولا يبديه لعباده, والحال أن الله خادعهم. فمجرد وجود هذه الحال منهم, ومشيهم عليها, خداع لأنفسهم. وأي خداع أعظم, ممن يسعى سعيا, يعود عليه بالهوان والذل والحرمان؟!!. ويدل - بمجرده - على نقص عقل صاحبه, حيث جمع بين المعصية, ورآها حسنة, وظنها من العقل والمكر. فلله ما يصنع الجهل والخذلان بصاحبه!!. ومن خداعه لهم يوم القيامة, ما ذكره الله في قوله: " يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ " إلى آخر الآيات. ومن صفاتهم أنهم " وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ " التي هي أكبر الطاعات العملية, إن قاموا " قَامُوا كُسَالَى " متثاقلين لها, متبرمين من فعلها. والكسل, لا يكون إلا من فقد الرغبة من قلوبهم. فلولا أن قلوبهم فارغة من الرغبة إلى الله, وإلى ما عنده, عادمة للإيمان, لم يصدر منهم الكسل. " يُرَاءُونَ النَّاسَ " أي: هذا الذي انطوت عليه سرائرهم, وهذا مصدر أعمالهم, مراءاة الناس. يقصدون رؤية الناس, وتعظيمهم, واحترامهم, ولا يخلصون لله. فلهذا " وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا " لامتلاء قلوبهم من الرياء. فإن ذكر الله تعالى, وملازمته, لا يكون إلا من مؤمن, ممتلئ قلبه, بمحبة الله وعظمته.
" مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا "
" مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ " . أي: مترددين, بين فريق المؤمنين, وفريق الكافرين. فلا من المؤمنين ظاهرا وباطنا, ولا من الكافرين ظاهرا وباطنا. أعطوا باطنهم للكافرين, وظاهرهم للمؤمنين, وهذا أعظم ضلال يقدر. ولهذا قال " وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا " أي: لن تجد طريقا لهدايته, ولا وسيلة لترك غوايته, لأنه انغلق عنه باب الرحمة, وصار بدله, كل نقمة. فهذه الأوصاف المذمومة, تدل - بتنبيهها - على أن المؤمنين, متصفون بضدها, من الصدق والإخلاص, ظاهرا وباطنا. وأنهم لا يجهل ما عندهم, من النشاط في صلاتهم, وعباداتهم, وكثرة ذكرهم لله تعالى. وأنهم قد هداهم الله, ووفقهم للصراط المستقيم. فليعرض العاقل نفسه على هذين الأمرين, وليختر أيهما أولى به, والله المستعان.
" يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانا مبينا "
لما ذكر أن من صفات المنافقين, اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين, نهى عباده المؤمنين أن يتصفوا بهذه الحالة القبيحة, وأن يشابهوا المنافقين, فإن ذلك موجب لأن " تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا " أي: حجة واضحة على عقوبتكم. فإنه قد أنذرنا وحذرنا منها, وأخبرنا بما فيها من المفاسد. فسلوكها - بعد هذا - موجِب للعقاب. وهذه الآية, دليل على كمال عدل الله, وأن الله لا يُعَذِّب أحدا; قبل قيام الحجة عليه. وفيه التحذير من المعاصي; فإن فاعلها يجعل لله عليه سلطانا مبينا.
" إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرا "
يخبر تعالى, عن مآل المنافقين, أنهم في أسفل الدركات من العذاب, وأشر الحالات من العقاب. فهم تحت سائر الكفار, لأنهم شاركوهم بالكفر بالله, ومعاداة رسله. وزادوا عليهم, المكر والخديعة, والتمكن من كثير من أنواع العداوة للمؤمنين, على وجه لا يشعر به ولا يحس. ورتبوا على ذلك, جريان أحكام الإسلام عليهم, واستحقاق ما لا يستحقونه. فبذلك ونحوه, استحقوا أشد العذاب. وليس لهم منقذ من عذابه, ولا ناصر يدفع عنهم بعض عقابه. وهذا عام لكل منافق, إلا مَنْ مَنَّ الله عليهم بالتوبة من السيئات " وَأَصْلَحُوا " له الظواهر والبواطن " وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ " والتجأوا إليه, في جلب منافعهم, ودفع المضار عنهم. " وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ " الذي هو الإسلام, والإيمان والإحسان " لِلَّهِ " . فقصدوا وجه الله, بأعمالهم الظاهرة والباطنة, وسلموا من الرياء والنفاق. فمن اتصف بهذه الصفات " فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ " أي: في الدنيا, والبرزخ, ويوم القيامة. " وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا " لا يعلم كنهه إلا الله, مما لا عين رأت, ولا أذن سمعت, ولا خطر على قلب بشر. وتأمل كيف خص الاعتصام والإخلاص, بالذكر, مع دخولهما في قوله: " وَأَصْلَحُوا " لأن الاعتصام والإخلاص, من جملة الإصلاح, لشدة الحاجة إليهما, خصوصا في هذا المقام الحرج, الذي تمكن فيه النفاق من القلوب. فلا يزيله إلا شدة الاعتصام بالله, ودوام اللجأ والافتقار إليه, في دفعه, وكون الإخلاص منافيا كل المنافاة للنفاق. فذكرهما لفضلهما, وتوقف الأعمال الظاهرة والباطنة عليهما, ولشدة الحاجة في هذا المقام إليهما. وتأمل كيف - لما ذكر أن هؤلاء مع المؤمنين - لم يقل " وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا " , مع أن السيئات فيهم. بل قال " وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا " . لأن هذه القاعدة الشريفة - لم يزل الله يبدئ فيها ويعيد, إذا كان السياق في بعض الجزئيات, وأراد أن يرتب عليه ثوابا أو عقابا وكان ذلك مشتركا بينه وبين الجنس الداخل فيه. رتب الثواب, في مقابلة الحكم العام, الذي تندرج تحته, تلك القضية وغيرها. ولئلا يتوهم اختصاص الحكم, بالأمر الجزئي, فهذا من أسرار القرآن البديعة. فالتائب من المنافقين, مع المؤمنين, وله ثوابهم.
" ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرا عليما "
ثم أخبر تعالى, عن كمال غناه, وسعة حلمه, ورحمته; وإحسانه فقال: " مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ " والحال أن الله شاكر عليم. يعطي المتحملين لأجله; الأثقال, الدائبين في الأعمال; جزيل الثواب وواسع الإحسان. ومن ترك شيئا لله, أعطاه الله خيرا منه. ومع هذا, يعلم ظاهركم وباطنكم, وأعمالكم, وما تصدر عنه من إخلاص وصدق, وضد ذلك. وهو يريد التوبة والإنابة منكم والرجوع إليه. فإذا أنبتم إليه, فأي شيء يفعل بعذابكم؟ فإنه لا يتشفى بعذابكم, ولا ينتفع بعقابكم. بل العاصي لا يضر إلا نفسه, كما أن عمل المطيع, لنفسه. والشكر هو: خضوع القلب, واعترافه بنعمة الله, وثناء اللسان على المشكور. وعمل الجوارح بطاعته, وأن لا يستعين بنعمه على معاصيه.
" لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم وكان الله سميعا عليما "
يخبر تعالى أنه لا يحب الجهر بالسوء من القول, أي: يبغض ذلك ويمقته, ويعاقب عليه. ويشمل ذلك, جميع الأقوال السيئة, التي تسوء وتحزن, كالشتم, والقذف, والسب ونحو ذلك فإن ذلك كله, من المنهي عنه, الذي يبغضه الله. ويدل مفهومها, أنه يحب الحسن من القول, كالذكر, والكلام الطيب اللين. وقوله " إِلَّا مَنْ ظُلِمَ " أي: فإنه يجوز له أن يدعو على من ظلمه, ويشتكي منه, ويجهر بالسوء لمن جهر له به, من غير أن يكذب عليه, ولا يزيد على مظلمته, ولا يتعدى بشتمه غير ظالمه. ومع ذلك, فعفوه, وعدم مقابلته, أولى كما قال تعالى: " فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ " . " وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا " ولما كانت الآية, قد اشتملت على الكلام السيئ, والحسن, والمباح, أخبر تعالى, أنه سميع, فيسمع أقوالكم, فاحذروا أن تتكلموا بما يغضب ربكم فيعاقبكم. وفيه أيضا ترغيب على القول الحسن " عَلِيمٌ " بنياتكم ومصدر أقوالكم.
" إن تبدوا خيرا أو تخفوه أو تعفوا عن سوء فإن الله كان عفوا قديرا "
ثم قال تعالى " إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ " وهذا يشمل كل خير, قولي, وفعلي, ظاهر, وباطن, من واجب, ومستحب. " أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ " أي: عمن أساء إليكم في أبدانكم, وأموالكم, واعراضكم, فتسمحوا عنه, فإن الجزاء من جنس العمل. فمن عفا لله, عفا الله عنه, ومن أحسن, أحسن الله إليه, فلهذا قال: " فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا " أي: يعفو عن زلات عباده, وذنوبهم العظيمة, فيسدل عليهم ستره, ثم يعاملهم بعفوه التام, الصادر عن قدرته. وفي هذه الآية, إرشاد إلى التدبر في معاني أسماء الله وصفاته, وأن الخلق والأمر, صادر عنها, وهي مقتضية له, ولهذا يعلل الأحكام, بالأسماء الحسنى, كما في هذه الآية. لما ذكر عمل الخير والعفو عن المسيء, رتب على ذلك, بأن أحالنا على معرفة أسمائه, وأن ذلك يغنينا عن ذكر ثوابها الخاص قال " إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ " إلى " وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " .
" إن الذين يكفرون بالله ورسله ويريدون أن يفرقوا بين الله ورسله ويقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلا "
هنا قسمان, قد وضحا لكل أحد مؤمن بالله, وبرسله كلهم, وكتبه, وكافر بذلك كله. وبقي قسم ثالث: وهو: الذي يزعم أنه يؤمن ببعض الرسل, دون بعض, وأن هذا سبيل ينجيه من عذاب الله, إن هذا إلا مجرد أماني. فإن هؤلاء, يريدون التفريق بين الله وبين رسله. فإن من تولى الله حقيقة, تولى جميع رسله, لأن ذلك من تمام توليه. ومن عادى أحدا من رسله, فقد عادى الله, وعادى جميع رسله كما قال تعالى: " مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ " الآيات.
" أولئك هم الكافرون حقا وأعتدنا للكافرين عذابا مهينا "
وكذلك من كفر برسول, فقد كفر بجميع الرسل, بل بالرسول, الذي يزعم أنه به مؤمن, ولهذا قال: " أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا " . وذلك لئلا يتوهم أن مرتبتهم متوسطة, بين الإيمان والكفر. ووجه كونهم كافرين - حتى بمن زعموا الإيمان به - أن كل دليل دلهم على الإيمان بمن آمنوا به, موجود هو أو مثله, أو ما هو فوقه للنبي الذي كفروا به. وكل شبهة يزعمون أنهم يقدحون بها في النبي الذي كفروا به, موجود مثلها, أو أعظم منها, فيمن آمنوا به. فلم يبق بعد ذلك, إلا التشهي والهوى, ومجرد الدعوى, التي يمكن كل أحد أن يقابلها بمثلها. ولما ذكر أن هؤلاء هم الكافرون حقا, ذكر عقابا شاملا لهم, ولكل كافر فقال: " وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا " كما تكبروا عن الإيمان بالله, أهانهم بالعذاب الأليم المخزي.
" والذين آمنوا بالله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم أولئك سوف يؤتيهم أجورهم وكان الله غفورا رحيما "
" وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ " وهذا يتضمن الإيمان, بكل ما أخبر الله به عن نفسه, وبكل ما جاءت به الرسل من الأخبار والأحكام. " وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ " بل آمنوا بهم كلهم. فهذا هو الإيمان الحقيقي, واليقين المبني على البرهان. " أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ " أي: جزاء إيمانهم, وما ترتب عليه, من عمل صالح, وقول حسن, وخلق جميل, كُلٌّ على حسب حاله. ولعل هذا, هو السر في إضافة الأجور إليهم. " وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا " يغفر السيئات ويتقبل الحسنات.
" يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتابا من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك فقالوا أرنا الله جهرة فأخذتهم الصاعقة بظلمهم ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات فعفونا عن ذلك وآتينا موسى سلطانا مبينا "
هذا السؤال الصادر من أهل الكتاب, للرسول محمد صلى الله عليه وسلم, على وجه العناد والاقتراح, وجعلهم هذا السؤال. يتوقف عليه تصديقهم, أو تكذيبهم. وهو أنهم سألوه أن ينزل عليهم القرآن جملة واحدة, كما نزلت التوراة والإنجيل. وهذا غاية الظلم منهم, فإن الرسول, بشر عبد, مدبر, ليس في يده من الأمر شيء, بل الأمر كله لله. وهو الذي يرسل وينزل ما يشاء على عباده, كما قال تعالى عن الرسول, لما ذكر الآيات التي فيها اقتراح المشركين عليه صلى الله عليه وسلم. " قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا " . وكذلك جعلهم الفارق, بين الحق والباطل, مجرد إنزال الكتاب جملة, أو مفرقا, مجرد دعوى, لا دليل عليها, ولا مناسبة, بل ولا شبهة. فمن أين يوجد في نبوة أحد من الأنبياء, أن الرسول الذي يأتيكم بكتاب, نزل مفرقا, فلا تؤمنوا به, ولا تصدقوه؟ بل نزول القرآن مفرقا بحسب الأحوال, مما يدل على عظمته, واعتناء الله بمن أنزل عليه كما قال تعالى: " وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا " فلما ذكر اعتراضهم الفاسد, أخبر أنه ليس بغريب من أمرهم. بل سبق لهم من المقدمات القبيحة, ما هو أعظم مما سلكوا مع الرسول, الذي يزعمون أنهم آمنوا به, من سؤالهم له, رؤية الله عيانا, واتخاذهم العجل إلها يعبدونه, من بعد ما رأوا من الآيات بأبصارهم, ما لم يره غيرهم. ومن امتناعهم من قبول أحكام كتابهم, وهو التوراة, حتى رفع الطور من فوق رءوسهم, وهددوا أنهم إن لم يؤمنوا, أسقط عليهم, فقبلوا ذلك على وجه الإغماض, والإيمان الشبيه بالإيمان الضروري. ومن امتناعهم من دخول أبواب القرية, التي أمروا بدخولها سجدا مستغفرين, فخالفوا القول والفعل. ومن اعتداء من اعتدى منهم في السبت, فعاقبهم الله تلك العقوبة الشنيعة. وبأخذ الميثاق الغليظ عليهم, فنبذوه وراء ظهورهم, وكفروا بآيات الله, وقتلوا رسله بغير حق. ومن قولهم: إنهم قتلوا المسيح عيسى وصلبوه. والحال أنهم ما قتلوه وما صلبوه, بل شُبِّه لهم غيره, فقتلوا غيره وصلبوه. وادعائهم بأن قلوبهم غلف, لا تفقه ولا تقول لهم, ولا تفهمه. وبصدهم الناس عن سبيل الله, فصدوهم عن الحق, ودعوتهم إلى ما هم عليه من الضلال والغي. وبأخذهم السحت, والربا, مع نهي الله لهم عنه, والتشديد فيه. فالذين فعلوا هذه الأفاعيل, لا يستنكر عليهم أن يسألوا الرسول محمدا, أن ينزل عليهم كتابا من السماء. وهذه الطريقة, من أحسن الطرق, لمحاجة الخصم المبطل. وهو: أنه إذا صدر منه من الاعتراض الباطل, ما جعله شبهة له ولغيره, في رد الحق, أن يبين من حاله الخبيثة, وأفعاله الشنيعة, ما هو من أقبح ما صدر منه, ليعلم كل أحد أن هذا الاعتراض من ذلك الوادي الخسيس, وأن له مقدمات يجعل هذا معها. وكذلك كل اعتراض يعترضون به, على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم, يمكن أن يقابل بمثله, أو ما هو أقوى منه, في نبوة من يدعون إيمانهم به, ليكتفي بذلك شرهم, وينقمع باطلهم. وكل حجة سلكوها, في تقريرهم لنبوة من آمنوا به, فإنها ونظيرها, وما هو أقوى منها, دالة ومقررة لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم. ولما كان المراد من تعديد ما عدد الله من قبائحهم هذه المقابلة, لم يبسطها في هذا الموضع, بل أشار إليها, وأ | |
| | | | تفسير السعدي - سورة النساء | |
|
مواضيع مماثلة | |
|
| صلاحيات هذا المنتدى: | لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
| |
| |
| |
|